mardi 15 juillet 2008

Subhi Hadidi - Contemporary Western Feminist Criticism

(النقد النسوي الغربي المعاصر)
صبحي حديدي
(سوريا/باريس)
"كان يا ما كان في قديم الزمان، في زمان جد حزين، ليس بزمانك ولا بزماني، أن رجلا أعتاد البوح بالأسرار إلى سواه من الرجال. ذلك الرجل كان الناقد الملك، وبقيت الرجال كانوا توابعه الأذلاء، ولم يسبق لامرأة أن سمعت أياً من تلك الأسرار أو قرأت الكتب التي تدور حولها الأسرار.
لكن الملك رزق بابنة، وحدث أنها قرأت الكتب واسترقت السمع إلى الأسرار فاكتشفت أن الأسرار لم تكن أسرارا ولا الكتب كتبا. أستبد الغضب بالابنة فروت الأمر إلى أترابها، وصرفت الليالي الطوال في الحديث عنه. ثم شاخ الملك وأتباعه وماتوا، فقلبت البنات النظر في وجوههن الذهبية، وأصغين إلى أصواتهن الذهبية. ولقد عشن زمناً طويلا في تلك البلاد التي أطلقنا عليها اسم النقد النسوي".
هكذا تبدأ ماغي هَمْ Humm كتابها، "النقد النسوي: النساء كناقدات معاصرات"، معتبرة أن صيرورة الاستماع إلى الأصوات الذهبية الصادرة عن الناقدات النسويات قد علمتها الكثير حول نفسها ككاتبة وكأستاذة جامعية، وحول إقصاء المرأة والاستخدام الأيديولوجي لموضوع الأدب والمؤسسة الأدبية التي يديرها الرجال. لكن نفاد الصبر حيال الاستخدامات الأبوية (البطريركية) للنقد الأدبي ليست كفيلة بإعادة النظر في ولع الرجال بالحط من قدر الناقدات، ومطلوب من النقد النسوي أن يعيد تعريف النظرية الأدبية على قاعدة الفهم البرنامجي للشكل الأدبي الذي تأخذه تجربة المرأة بهدف اختراق التحريم المفروض على مشاركة المرأة في إضاءة تجاربها من مواقعها. وترى ماغي هم إن إعادة تقييم أرض النقد الأدبي ذاته (كما يرسم خريطتها ويستعمرها الرجال) اشد أهمية من إعادة تقييم كتابة المرأة أو إساءة تمثيل تلك الكتابة وموضوعها.
مطلوب بالتالي تغيير لغة النقد الأدبي "من لغة السلطة والامتلاك إلى لغة التعاطف والحنو".
ولكن ما هو "النقد النسوي"، أو ماذا يمكن أن يكون؟ ثمة هنا ثلاثة افتراضات مركزية:
1. لا مهرب للأدب والنقد من الأيديولوجية، ولا مهرب من استغلال الجنس Gender لأغراض رمزية. وتجربة الجنس في الكتابة والقراءة تترمز في أسلوب، الذي يتوجب أن يمثل الإفصاح الأيديولوجي عن أي كاتب أو قارئ ناقد. لسبب كهذا، تقول ماغي هم، يحتاج النقد النسوي إلى "إدراج تحويلات عامة لأيديولوجية أي كاتب، ولنظريته الثقافية".
2. ثمة استراتيجيات كتابة قائمة على القرينة الجنسية، كما أشارت فرجينيا وولف Woolf في تعليقها الشهير على جملة دوروثي ريتشاردسون "الأقرب إلى جملة سيكولوجية للجنس النسوي". المسألة هنا تتجاوز حدود ممارسات القرن التاسع عشر وأبعاد النساء (من الطبقة المتوسطة تحديدا) عن ميادين التعبير الإبداعي مثلما ميادين العمل على أرصفة الموانئ أو الوظائف الاجتماعية الحساسة.
الأبحاث اللسانية المعاصرة تبرهن على نمطين متوازيين من الاستخدام اللغوي وصياغة التراكيب وتوظيف المفردات: نمط مذكر ونمط مؤنث، ثم ما يتأسس عليهما من تمايزات مجازية وتعبيرية، وتنظير نقدي وموضوعاتي (خصوصية تجربة الحيض على سبيل المثال).
3. ثمة ثالثا، مرجعية ذكورية عالية في النظرية النقدية المعاصرة، وثمة مقولات راسخة تأخذ شكل التراثات. النقد النسوي يحاول "محاصصة" التصنيفات النوعية التقليدية القائمة على نصوص رجال في إهاب نساء، أو معايير جمالية "حدسية" لا تنهض سوى على جثث الأشكال التعبيرية المؤنثة (بالفعل أحيانا، وبالافتراض في معظم الأحيان). تأسيس النص الأب على أساس "قرابة الدم" مع المحتوى الاجتماعي لم يطلق فكرة برجوازية فحسب، بل أقتات وعاش أساساً على التاريخ الطويل للنظم البطريركية كما أشار فوكو. والنقد النسوي يحاول أن يكون أكثر كثير من مجرد إضافة (هامشية أو جوهرية) على البنيوية أو الماركسية أو التفكيكية، وأكثر مسؤولية من مجرد تصحيح المسار النقدي الذكوري أو كتابة سرد أخطاء طويل لهذا الجانب أو ذاك في كتابات "النقاد الأصدقاء" الذين حاولوا إنصاف النص النسوي نية صادقة.. ذكورية!
ما أسمته فرجينيا وولف "نسيجنا الجديد الأكثر مرونة من قماشنا" هو التنظير الجديد الهائل الذي يحاول النقد النسوي المعاصر تسريبه عبر ثلاث أقنية، تتوازى بهذا القدر أو ذاك مع الافتراضات الثلاثة السابقة:
• مشكلة تجنيس التاريخ الأدبي تستقبلها قناة النص الذكورية ذاته، بعد إخضاعه لكوابحه الثقافية والاجتماعية ثم تحريره منها بحيث يجري كشف التنميط (الخفي، المعقد) للمرأة العجيبة المفبركة طّي النص "الصديق" الذي يرى في المرأة مستهلكا بريئا لصورتها الأصلية الدفينة، ولإعادة إنتاج تلك الصورة في النص الذكوري المتعاطف.
• مشكلة خلق القارئة القابلة للتجنيس بوسيلة تسليحها بطرائق جديدة وممارسات نقدية حديثة الولادة. تلك الممارسة تشدد على تقنيات صناعة العلامة وتأمين المرايا اللازمة لانعكاس صورة الأم والإبنة، ومختلف "أدوار" الأنوثة كعلامة أنثروبولوجية.
• مشكلة تكوين حالة اجتماعية من القراءة المؤنثة، وتصليب سيرورة هذا التكوين بأطر مرجعية معرفية وأسلوبية ولسانية (وأيديولوجية، لاستكمال المعادلة الجمالية). النقد النسوي هنا ليس مجرد تدريب لحساسية قراءة وكتابة نص المرأة، بل هو حقل تعاقدي عريض يهدف إلى استكشاف وتطوير التراث الجذري المضاد رغم إنه يتكئ على حقول أخرى ناجزة ومتأصلة، وعلى أقنعة معرفية وحقوقية أحسن الرجل ابتكارها واستخدامها وصيانتها:
النصان الرائدان (عمل سيمون دوبوفوار) "الجنس الثاني"، وعمل كيت ميلليت Millett "السياسة الجنسية"، حاصصا الأدب لصالح الحالة النسوية كما تقول ماغي هم، فسألت دوبوفوار: ما هي المرأة ولماذا يساء تمثيلها في النصوص المذكورة؟ وسألت ميلليت: ما هي السياسة الجنسية وكيف يجري تمثيلها في الأدب؟ النسوية والنقد الثقافي يتحدان في عمل بيتي فريدان Friedan "الباطن المؤنث" وعمل جيرمين غرير Greer "الخصيّ المؤنث"، مثلما يتحدان في إثارة سؤال مركزي: لماذا تتأصل الأنماط الأنثوية المكرورة، ولماذا تقبل بها المرأة؟ هذا المزيج المهجن من النقد الثقافي والنقد الأدبي هو السمة المشتركة للنقد النسوي بعد الحرب العالمية الثانية، حين طرح مفهوم الثقافة (ثم الأدب لاحقا) كأداة فعالة في معركة اشتغال البطريركية على حقولها وتواريخها: دوبوفوار وميلليت نظرتا إلى البطريركية كمنبع لقمع المرأة، وفريدان وغرير رأتا الأشكال في وجه استجابة المرأة ذاتها للبطريركية، فانتهى الاتجاه الأول إلى الحديث عن تحالفات جذرية بين النسوية والزنوجة والسحاق، وشدد الاتجاه الثاني على تنمية الوعي للذات الأنثوية كعتبة أولى نحو التغيير.
عام 1968 هو المحطة الفاصلة التي ستشهد انهيار الحواجز بين أنظمة التحليل النفسي والفلسفة والأدب والألسنية في النقد النسوي. بطلات هذا الطور من صراع الولادة هنّ الفرنسيات جوليا كريستيفا Kristeva ومونيك وتيغ Wittig وهيلين سيكسو Cixous ولوس أريغاري Irigaray، والأمريكية ماري دالي Dali. لقد أقيمت رابطة وثيقة بين الأدب والتحاليل النفسي لسببين جوهريين: أن الثاني رصد العلاقة النفسية بين الأم والابنة بهدي من "الأنماط الخالدة" التي كرسها النشاط الأول، وأن مجمل سلطات المؤلفين واشتراك الكاتب والقارئ في ملكية النص تخضع لمساءلة حادة في ضوء مراجعة التحليل النفسي لفكرة السلطة ذاتها.
النصوص الرائدة مهدت الأرض لهذا الربط الحاسم حين اعتبرت إن إحدى سمات الدب البطريركي هي القدرة على استخدام اللغة بغرض "تطبيع" الأنماط المكرورة للمرأة كجزء لا يتجزأ من عملية الإنتاج الأدبي، وحرب النقد النسوي ضد التأسيس ألبطريركي للأدب تقتضي تحويل النقد الأدبي إلى مزيج مرن من الموضوعات الثقافية والتقنيات اللسانية. لكن المعضلة تكمن في أن الأدب. كما يعرّفه التراث النقدي. مؤسسة تحكمها أعراف النوع والتواريخ، والكتابة تعرفها ممارساتها وليس تاريخها، أي دور، والحال هذا، يمكن أن تلعبه لغة المرأة في الأدب، بحيث يتاح لها أن تفكك القيم التاريخية لتلك المؤسسة؟ سيكسو ودالي تريان في اللغة نظاما ديناميكيا وليس جسما ثابتا لا تحتاج عناصره إلى تصنيف وتنظيم، واستخدام ذاكرة الجسد الأنثوي هو الوسيلة الاستراتيجية لعزل التعتيم "الحر" الذي مارسه الرجال على احتمال الجسد الأنثوي. على استعارته وصوته، وعلى خلاصة لغته.
كيف يمكن اقتفاء أثر الخطابات الذكورية الرمزية، وتحييد علاماتها؟
جوليا كريستيفا ترتد إلى علم النفس لترصد العلاقة الدلالية الخام بين خطاب الأم وخطاب الطفل في الطور الذي يسبق تدخل المجتمع وإقحام المؤسسة، وهي هنا تدخل في نزاع "تأسيسي" مع سيكسو وإريغاري حول فيزيولوجيا المرأة كمصدر- بذاته- لاستعارتها وخطابها. لكن كريستيفا تدخل المعركة مسلحة بأنظمة وانساق نقدية تأسست خارج الحقل النسوي (الماركسية، نتائج جاك لاكان، المقاربات البنيوية وما يعيد البنيوية) وتطالب باندماج الشعريات النسوية بأنظمة التحليل الساعية إلى كشف النقاب لكشف النقاب عن أوليات قمع المرأة، وربما المجتمع بأسره. أي اندماج، تتساءل سيكسو في مقالتها الشهيرة "ضكحة ميدوزا"؟ البديل الوحيد عن الهيمنة الذكورية هو إنشاء لغة نسوية مستقلة عن خطاب الذكر وعاكسة للفارق الجنسي في الآن ذاته، ولقد انطوى زمن "تمرير" الخديعة الذكورية عبر الأسماء "البريئة" لأساطير الجميلة النائمة وساندرلا والزوجات الصينيات... "الصغيرة الضائعة في الغابة" ليست أكثر (وليست أقل) من البظر الصغير كما تأسره حلقة استعارة الذكورية!
كريستيفا تحاول منهجة النقاش حين تتحدث عن التحليل النفسي النسوي الذي يسعى إلى ترتيب فضاءات جديدة في زمن جديد، ثم تتساءل: من أي موقع وطريقة تتحدثن/ تكتبن بصورة مختلفة عن الرجل؟ إجابتها تنطلق من موقع الأم وسبيل الدلالة وترتقي في مساحة مركبة مع إجابات جولييت ميتشل Mitchell (الأم/ الهيستيريا) وكارولين هيلبرن Heilbrun "الأم/ البطلة الخنثى) وغاياتري سبيفاك Spivak (الأم/ الرحم كأداة إنتاج).
عند هذا المنعطف يبدو التركيز النسوي على اللغة مدينا لعمليات تحوّل وإبدال التصوير البلاغي السيكولوجي، كما بدأها سيغموند فرويد وطوّرها جاك لاكان في مضمار علاقة اللغة بالفانتازيا على وجه خاص.
غاياتري سبيفاك (الناقدة الأمريكية من أصل هندي، ومترجمة جاك دريدا إلى الإنكليزية) إنفردت برصدها اللامع لما يمكن تسميته بـ "عقدة ميراندا"، الشخصية النسائية المحورية في مسرحية شكسبير "العاصفة". وإذا كان توتر ثنائية بروسبيرو/ كاليبان يثير مسائل الذات والآخر، الغرب وبقية أرجاء العالم، المستعمر والمستعمَر، فإن العلاقة بين كاليبان وميراندا تفتح السؤال النسوي في الخطاب ما بعد الكولونيالي: لقد "أستُعمرت" ميراندا لأن وجودها يقتصر على أداء وظيفة "آخر الرجل" وجانبه الخفي المفكر وتجسيد "انعدام الوزن الثقافي". انتماء سبيفاك إلى الهند زودها بالقدرة على إغناء النسوية الماركسية- التفكيكية بركائز تضرب بجذورها في أعماق التربة ما بعد الكونيالية، ولعلها في طليهة فريق قطع شوطا ملموسا على طريق إتمام الزواج السعيد بين ألتوسير ودريدا من جهة، وخطاب التابع والخطاب النسوي من جهة أخرى. إنها بهذا المعنى تكمل الزواج (غير السعيد ربما) الذي سعت كريستيفا إلى إعلانه بين ماركس وفرويد ولاكان، أو الطلاق الصاخب الذي دافعت عنه الناقدة النسوية الماركسية كريستين دلفي Delphy حين تحدثت عن مفاهيم ماركسية (سليمة) ونقد ماركسي ذكوري (زائف).
وفي العقد الأخير مالت التطبيقات النقدية النسوية إلى التركيز على الرواية بوصفها مسرود الهوية الجنسية والموقع والأمثال لانكشاف الجوانب اللاواعية في تلك الهوية. ساندرا غلبرت Gilbert وسوزان غوبار Gubar قرأتا روايات جين اوستن، وماري شيللي، وإميللي برونتي، وجورج إليوت للبحث من تباينات الصورة الذاتية/ المشهد الاجتماعي بوصفها استراتيجية تعريف الهوية المؤنثة في الفن والمجتمع على حد سواء. حصيلة تلك القراءة تمثلت في العمل الهام "المجنونة في السقيفة" الذي يعد حجر أساس تطبيقي في الطور الراهن من نظرية النقد النسوي. وللمرء أن يعثر، في الصفحات الـ 718 من الكتاب الضخم، على أطروحات جريئة مفتوحة يمكن أن تبدأ من تسجيل واقعة كره الكاتبات للشخصيات اللواتي خلقناها دون الإنفكاك عن جدل تلك الشخصيات وجاذبيتها السيكولوجية، ثم لا تنتهي عند محاولة تحرير الشاعرة إميلي ديكنسون من بطريركية ذاتية التوليد تتذبذب بين الشعرية النسوية والرومانتيكية الذكورية المقنّعة.
والكتاب، من جهة أخرى، مسمار ثقيل في نعش الاتجاه النسوي الأسطوري الذي ترعرع في الأربعينات والخمسينات على حساب نورثورب فراي Frye ومارشال مكلوهان Mcluhan وتفريعات "النقد الجديد" في الولايات المتحدة. تلك كانت حقبة الالتفات إلى روحانية الجسد الأنثوي وتمثيلياته الاسطورية، وإلى العمليات الذهنية المعقدة التي تقف خلف ترسيخ أسطورة بعينها في المجتمع، ثم تنبثق عنها قبل أن تعيد إنتاجها وتكييفها وتوظيفها كأوالية سلطة ورمز. أعمال ماري دالي وأدريال ريش Rich وإنيس برات Pratt ترجيع لصدى التيار النسوي الأسطوري الذي بدأ هادئا وفلسفيا وانتهى أكثر هدوءا وأقل فلسفة. ومما له دلالة هنا هذا التيار أخلى مكانه لولادة النقد النسوي الأسود والنقد السحاقي في الولايات المتحدة، الذي يعيد الأمور إلى المربع اللغوي الأول، الأسطوري والخام حيث تنشأ الخطابات من اشتباك الماضي والعرق بالحاضر والجنس.
كتاب ساندرا غلبرت وسوزان غوبار يستمد عنوانه من شخصية المجنونة في رواية "جين آير" لشارلوت برونتي. المجتمع يقرر حبس بيرتا ماسون في السقيفة لأنها "تنهض مثل حلم مزعج، دموي وساخط وصاخب، أشبه بالكتابة التي تجرح الصمت الوقور". المفارقة تكمن في أن إخفاء الصوت المؤنث ينطوي على تحصينه ضد أثقال إرث ذكوري معاد، حتى حين يكون سياج التحصين هو الجنون والهستيريا والتواء الرمز والدلالة! ثمة حقائق غير مرئية طيّ النص المرئي، وفي قاعه الثقافي العميق حيث تتكاثر استراتيجيات القراءة "الأخرى" مثل فطر شيطاني رعته بيرتا في غياهب عزلتها...
ولأن النقد النسوي يجابه مركزية "الأدب" في التاريخ الأدبي ويعيد تدقيق الإشكالية الناجمة عن هذه الممارسة، فإنه ينطوي على تأويل تاريخي وإعادة إنشاء ولتكوين لحقيقة أن القراءة هي- على الدوام- إعادة قراءة. جوناثان كلر Kuller سال نفسه: أن يقرأ المرء كامرأة؟ ثم اعتبر السؤال فريضة مدرسية وقرر أن هذه اللعبة ليست أكثر من "القيام بدور امرأة" بصرف النظر عن جنس القارئ/ القارئة. لكن نظرية النقد النسوي نهضت على قاعدة أخرى منطقية: الذكر الذي يقرأ كنسوي ليس ناقدا نسويا لأنه يحمل في داخله (في استراتيجيات قراءته) احتمال الفرار في أية لحظة إلى عوالمه الفعلية، إلى الذكورة والبطريكية.
وما دامت أسرار "الملك الناقد" قد انكشفت أمام ابنته الغاضبة فلم لا تتأسس بلاد "النقد النسوي" على سيرورة مركبة مزدوجة من التركيب Construction والتفكيك Deconstruction .. تركيب الذات بغرض تفكيك النص.
الكاتبة- 1993

Joumana Haddad - Feminist Manifesto

مانيفست لأنوثة جديدة
جمانة حداد
(لبنان)
سيدتي سيمون دو بوفوار،
إسمحي لي أن أتخذكِ اليوم ذريعةً للحديث عني، وأن أتخذ نفسي ذريعة للحديث عنكِ. الاتجاهان واحد. قلائل يدركون.
فرنسا والحركة النسوية والعالم أجمع تحتفل هذه السنة بمرور مئة عام على ولادتكِ. دعيني أتحجج بهذه المناسبة، لكي أحكي لكِ، ومعكِ، عن الظل. عن التواضع الكاذب. عن الإجماع. عن شيء من الحكمة. عن الأنوثة. عن الأنوثة الجديدة خصوصاً.
سيدتي،
- لي صديقة تمشي في الظل كي يقال إنها في الظل تمشي. لأن المشي في الظل -هكذا لُقِّنت ودُرِّبت- مدعاة للإعجاب والإشادة والمفخرة، وإن كان نفاقاً (معظمه نفاقٌ بحت). فماذا تقولين لصديقتي هذه، وأنتِ لم تخشي الوقوف في الضوء يوماً؟ أنا، مثلاً، لا أريد الظلّ. عالياً أعلنُ لا أريده. لستُ من اللواتي يمشين بخطى مختبئة في الكواليس، لكي يتحدث الناس عن انسحابي، وترفعي عن الشهرة. هذا خبثٌ لا أستسيغه، ولا أستطيع أن أتحمّل أحداً من هؤلاء الذين يتخفّون وراءه، كسباً لـ"احترام" زائف، أو لوهم امحاء مصطنع، بينما يسيل لعابهم سرّاً لعين واحدة ترصد وجودهم، وبنان واحدة تدلّ عليهم، وإشارة واحدة في مقالة "تفيهم حقّهم المهضوم". لا يعني ذلك طبعاً أن كل توارٍ مزوَّرٌ، وكل ظهورٍ صادقٌ (الخلط والتعميم مستحبّان، لأسباب متنوّعة، في أذهان الغالبية). ولا هو يعني أن ألهث وراء الضوء. ولا هو يعني أن أبيع روحي على حساب عزلتي وكتابتي وحياتي الداخلية والشخصية. بل يعني أن أكون كما أنا، أي امرأة تؤثر السير بخطى قوية، واثقة، علنية، مشمسة، مشمسة خصوصاً، حتى لو كلّفتها هذه الخطى الكثير الكثير.
وهي تُكلّف. لا بأس أنها.
- لي صديقة ثانية تمشي في محاذاة الحائط كي لا ينتبه إليها قنّاصُ نجاحٍ فيرشقها بحجار حسده. "إدّعي الموت"، قيل لها، "كي لا تنقضّ وحوش الغيرة عليك. الوحوش لا تحبّ الجيف، بل هي تبحث عن فرائس حيّة". فماذا تقولين لصديقتي هذه، وأنت لم تخشي القنص والقنّاصين يوماً؟ أنا، مثلاً، أرفض المشي في محاذاة الحائط. عالياً أعلنُ أرفضه. بشرتي الرقيقة تتحمل من رضوض الحجار أكثر بكثير مما توحي. وقد تحملت. التواضع درعٌ وإن تكن كاذبةً، يشاع؟ ربما. لكني لا أريد مثل هذه الدرع. هجمات الوحوش لن تجعلني أمشي بخطى متباطئة وحذرة في محاذاة الحائط، تجنباً للتنكيل والتشويه. لا يعني ذلك أن أتعجرف، وأن أصاب بفقدان البصيرة. ولا هو يعني أن "أصدّق نفسي"، وأتجاهل الآخر. بل يعني أن أكون كما أنا، أي امرأة تؤثر شقّ الطرق المجهولة والصعبة وغير الآمنة، وصولاً الى ما يشكل اكتشافاً جديداً، وأفقاً مفتوحاً، في الحياة وفي الأدب، حتى لو كلّفتها هذه الطرق الكثير الكثير.
هي تُكلِّف. لا بأس.
- لي صديقة ثالثة تريد أن يحبّها الجميع بلا استثناء. وأن يقدّرها الجميع بلا استثناء. وأن يمدحها الجميع بلا استثناء. "إياكِ ومعاداة الناس"، قيل لها، "إكسبي ودّ الجميع حتى لو اضطررت الى الضحك عليهم". هي تضحك. ملء ريائها تضحك. فماذا تقولين لصديقتي هذه، وأنت لم تخشي الأعداء يوماً؟ أنا، مثلاً، أزدري الإجماع. عالياً أعلنُ أزدريه. فالإجماع عندي يعني القطيعية. ويعني أن الشخص المجمَع عليه لا لون له ولا طعم ولا رائحة. لا أحتاج الى ودٍّ مسايِر كي أشعر بالأمان. لا أحتاج الى إرضاء الآخرين كي أشعر بالرضا عن ذاتي. لا أحتاج الى حماية مشاعر، ظاهرُها مغلّفٌ بالتقدير والمجاملة، وباطنها مفخّخ بالكراهية والحقد. فإذا كان لا بدّ من أعداء (هم لا بدّ منهم)، فليكن أعداء. خارج الدمغة الفردية، لا أريد شيئاً يُذكَر، لأن لا شيء يُذكَر. هذا لا يعني الخروج القسري عن السرب والتميّز "بالقوة"، لأن نتيجة التميّز بالقوّة فولكور سخيف. ولا هو يعني استفزاز الكراهية والحقد بلا مبرّر. بل يعني أن أكون كما أنا، أي امرأة إشكالية، لا امرأة طبق الأصل عن النساء. امرأة ذات رأي خاص، وأفكار خاصة، وموقف خاص، لا عنصراً من عناصر المشهد النمطي السائد والمكرّر والواحد، حتى لو كلّفتها هذه الخصوصية الكثير الكثير.
هي تُكلِّف. ولا بأس.
عزيزتي سيمون،
ييمكنني الاسترسال معكِ الى ما لا نهاية حول صديقاتي هؤلاء، وأحسبني سأفعل، في مناسبة أخرى. لكن المغزى كل المغزى هو أن أقول لكِ، لهنّ، ولي، إني هكذا. أجل، هكذا أنا. أحبّ أكون من أكون. وهذه هي في رأيي الأنوثة الجديدة التي نحن في حاجة إليها اليوم. أنوثةٌ لا تخاف حقيقتها. لا تخاف قوّتها. لا تخاف هشاشتها. لا تخاف طمعها. لا تخاف فجاجتها. لا تخاف شراستها. لا تخاف نعومتها. لا تخاف خسائرها. لا تخاف فضولها. لا تخاف صراحتها. لا تخاف جنونها. لا تخاف أخطاءها. لا تخاف موهبتها. لا تخاف جمالها. لا تخاف لغتها. لا تخاف شبقها. لا تخاف متطلباتها. لا تخاف نقائضها. لا تخاف طيشها. لا تخاف نضجها.
أنوثةٌ، في اختصار، لا تخاف أنوثتها.
لا أزعم أني نموذجٌ يُحتذى. البتة. على الاطلاق. ولا أدّعي امتلاك الأجوبة. بل على العكس من هذا تماماً: إن أنا سوى أسئلتي وأغلاطي. لكن حان الوقت، منذ وقتٍ، كي لا نخشى الخروج على المعادلات الجاهزة للأنوثة. وللكتابة. وللحياة.
أما الرجعيون والخبثاء والكارهون والجبناء والمعقّدون والبلهاء (إناثاً وذكوراً)، فليذهبوا حيث يشاؤون أن يذهبوا. هناك، لن يربحوا سوى الظلامية والتحجّر والغيرة التي تنهش عيونهم وقلوبهم وعقولهم و... أقلامهم.
أما نحن، بنات الأنوثة الجديدة، فحيث نحن ذاهبات سنخسر. سنخسرهم، سنخسرهنّ، بالتأكيد. وهذا لنا ربح عظيم!