mardi 15 juillet 2008

Subhi Hadidi - Contemporary Western Feminist Criticism

(النقد النسوي الغربي المعاصر)
صبحي حديدي
(سوريا/باريس)
"كان يا ما كان في قديم الزمان، في زمان جد حزين، ليس بزمانك ولا بزماني، أن رجلا أعتاد البوح بالأسرار إلى سواه من الرجال. ذلك الرجل كان الناقد الملك، وبقيت الرجال كانوا توابعه الأذلاء، ولم يسبق لامرأة أن سمعت أياً من تلك الأسرار أو قرأت الكتب التي تدور حولها الأسرار.
لكن الملك رزق بابنة، وحدث أنها قرأت الكتب واسترقت السمع إلى الأسرار فاكتشفت أن الأسرار لم تكن أسرارا ولا الكتب كتبا. أستبد الغضب بالابنة فروت الأمر إلى أترابها، وصرفت الليالي الطوال في الحديث عنه. ثم شاخ الملك وأتباعه وماتوا، فقلبت البنات النظر في وجوههن الذهبية، وأصغين إلى أصواتهن الذهبية. ولقد عشن زمناً طويلا في تلك البلاد التي أطلقنا عليها اسم النقد النسوي".
هكذا تبدأ ماغي هَمْ Humm كتابها، "النقد النسوي: النساء كناقدات معاصرات"، معتبرة أن صيرورة الاستماع إلى الأصوات الذهبية الصادرة عن الناقدات النسويات قد علمتها الكثير حول نفسها ككاتبة وكأستاذة جامعية، وحول إقصاء المرأة والاستخدام الأيديولوجي لموضوع الأدب والمؤسسة الأدبية التي يديرها الرجال. لكن نفاد الصبر حيال الاستخدامات الأبوية (البطريركية) للنقد الأدبي ليست كفيلة بإعادة النظر في ولع الرجال بالحط من قدر الناقدات، ومطلوب من النقد النسوي أن يعيد تعريف النظرية الأدبية على قاعدة الفهم البرنامجي للشكل الأدبي الذي تأخذه تجربة المرأة بهدف اختراق التحريم المفروض على مشاركة المرأة في إضاءة تجاربها من مواقعها. وترى ماغي هم إن إعادة تقييم أرض النقد الأدبي ذاته (كما يرسم خريطتها ويستعمرها الرجال) اشد أهمية من إعادة تقييم كتابة المرأة أو إساءة تمثيل تلك الكتابة وموضوعها.
مطلوب بالتالي تغيير لغة النقد الأدبي "من لغة السلطة والامتلاك إلى لغة التعاطف والحنو".
ولكن ما هو "النقد النسوي"، أو ماذا يمكن أن يكون؟ ثمة هنا ثلاثة افتراضات مركزية:
1. لا مهرب للأدب والنقد من الأيديولوجية، ولا مهرب من استغلال الجنس Gender لأغراض رمزية. وتجربة الجنس في الكتابة والقراءة تترمز في أسلوب، الذي يتوجب أن يمثل الإفصاح الأيديولوجي عن أي كاتب أو قارئ ناقد. لسبب كهذا، تقول ماغي هم، يحتاج النقد النسوي إلى "إدراج تحويلات عامة لأيديولوجية أي كاتب، ولنظريته الثقافية".
2. ثمة استراتيجيات كتابة قائمة على القرينة الجنسية، كما أشارت فرجينيا وولف Woolf في تعليقها الشهير على جملة دوروثي ريتشاردسون "الأقرب إلى جملة سيكولوجية للجنس النسوي". المسألة هنا تتجاوز حدود ممارسات القرن التاسع عشر وأبعاد النساء (من الطبقة المتوسطة تحديدا) عن ميادين التعبير الإبداعي مثلما ميادين العمل على أرصفة الموانئ أو الوظائف الاجتماعية الحساسة.
الأبحاث اللسانية المعاصرة تبرهن على نمطين متوازيين من الاستخدام اللغوي وصياغة التراكيب وتوظيف المفردات: نمط مذكر ونمط مؤنث، ثم ما يتأسس عليهما من تمايزات مجازية وتعبيرية، وتنظير نقدي وموضوعاتي (خصوصية تجربة الحيض على سبيل المثال).
3. ثمة ثالثا، مرجعية ذكورية عالية في النظرية النقدية المعاصرة، وثمة مقولات راسخة تأخذ شكل التراثات. النقد النسوي يحاول "محاصصة" التصنيفات النوعية التقليدية القائمة على نصوص رجال في إهاب نساء، أو معايير جمالية "حدسية" لا تنهض سوى على جثث الأشكال التعبيرية المؤنثة (بالفعل أحيانا، وبالافتراض في معظم الأحيان). تأسيس النص الأب على أساس "قرابة الدم" مع المحتوى الاجتماعي لم يطلق فكرة برجوازية فحسب، بل أقتات وعاش أساساً على التاريخ الطويل للنظم البطريركية كما أشار فوكو. والنقد النسوي يحاول أن يكون أكثر كثير من مجرد إضافة (هامشية أو جوهرية) على البنيوية أو الماركسية أو التفكيكية، وأكثر مسؤولية من مجرد تصحيح المسار النقدي الذكوري أو كتابة سرد أخطاء طويل لهذا الجانب أو ذاك في كتابات "النقاد الأصدقاء" الذين حاولوا إنصاف النص النسوي نية صادقة.. ذكورية!
ما أسمته فرجينيا وولف "نسيجنا الجديد الأكثر مرونة من قماشنا" هو التنظير الجديد الهائل الذي يحاول النقد النسوي المعاصر تسريبه عبر ثلاث أقنية، تتوازى بهذا القدر أو ذاك مع الافتراضات الثلاثة السابقة:
• مشكلة تجنيس التاريخ الأدبي تستقبلها قناة النص الذكورية ذاته، بعد إخضاعه لكوابحه الثقافية والاجتماعية ثم تحريره منها بحيث يجري كشف التنميط (الخفي، المعقد) للمرأة العجيبة المفبركة طّي النص "الصديق" الذي يرى في المرأة مستهلكا بريئا لصورتها الأصلية الدفينة، ولإعادة إنتاج تلك الصورة في النص الذكوري المتعاطف.
• مشكلة خلق القارئة القابلة للتجنيس بوسيلة تسليحها بطرائق جديدة وممارسات نقدية حديثة الولادة. تلك الممارسة تشدد على تقنيات صناعة العلامة وتأمين المرايا اللازمة لانعكاس صورة الأم والإبنة، ومختلف "أدوار" الأنوثة كعلامة أنثروبولوجية.
• مشكلة تكوين حالة اجتماعية من القراءة المؤنثة، وتصليب سيرورة هذا التكوين بأطر مرجعية معرفية وأسلوبية ولسانية (وأيديولوجية، لاستكمال المعادلة الجمالية). النقد النسوي هنا ليس مجرد تدريب لحساسية قراءة وكتابة نص المرأة، بل هو حقل تعاقدي عريض يهدف إلى استكشاف وتطوير التراث الجذري المضاد رغم إنه يتكئ على حقول أخرى ناجزة ومتأصلة، وعلى أقنعة معرفية وحقوقية أحسن الرجل ابتكارها واستخدامها وصيانتها:
النصان الرائدان (عمل سيمون دوبوفوار) "الجنس الثاني"، وعمل كيت ميلليت Millett "السياسة الجنسية"، حاصصا الأدب لصالح الحالة النسوية كما تقول ماغي هم، فسألت دوبوفوار: ما هي المرأة ولماذا يساء تمثيلها في النصوص المذكورة؟ وسألت ميلليت: ما هي السياسة الجنسية وكيف يجري تمثيلها في الأدب؟ النسوية والنقد الثقافي يتحدان في عمل بيتي فريدان Friedan "الباطن المؤنث" وعمل جيرمين غرير Greer "الخصيّ المؤنث"، مثلما يتحدان في إثارة سؤال مركزي: لماذا تتأصل الأنماط الأنثوية المكرورة، ولماذا تقبل بها المرأة؟ هذا المزيج المهجن من النقد الثقافي والنقد الأدبي هو السمة المشتركة للنقد النسوي بعد الحرب العالمية الثانية، حين طرح مفهوم الثقافة (ثم الأدب لاحقا) كأداة فعالة في معركة اشتغال البطريركية على حقولها وتواريخها: دوبوفوار وميلليت نظرتا إلى البطريركية كمنبع لقمع المرأة، وفريدان وغرير رأتا الأشكال في وجه استجابة المرأة ذاتها للبطريركية، فانتهى الاتجاه الأول إلى الحديث عن تحالفات جذرية بين النسوية والزنوجة والسحاق، وشدد الاتجاه الثاني على تنمية الوعي للذات الأنثوية كعتبة أولى نحو التغيير.
عام 1968 هو المحطة الفاصلة التي ستشهد انهيار الحواجز بين أنظمة التحليل النفسي والفلسفة والأدب والألسنية في النقد النسوي. بطلات هذا الطور من صراع الولادة هنّ الفرنسيات جوليا كريستيفا Kristeva ومونيك وتيغ Wittig وهيلين سيكسو Cixous ولوس أريغاري Irigaray، والأمريكية ماري دالي Dali. لقد أقيمت رابطة وثيقة بين الأدب والتحاليل النفسي لسببين جوهريين: أن الثاني رصد العلاقة النفسية بين الأم والابنة بهدي من "الأنماط الخالدة" التي كرسها النشاط الأول، وأن مجمل سلطات المؤلفين واشتراك الكاتب والقارئ في ملكية النص تخضع لمساءلة حادة في ضوء مراجعة التحليل النفسي لفكرة السلطة ذاتها.
النصوص الرائدة مهدت الأرض لهذا الربط الحاسم حين اعتبرت إن إحدى سمات الدب البطريركي هي القدرة على استخدام اللغة بغرض "تطبيع" الأنماط المكرورة للمرأة كجزء لا يتجزأ من عملية الإنتاج الأدبي، وحرب النقد النسوي ضد التأسيس ألبطريركي للأدب تقتضي تحويل النقد الأدبي إلى مزيج مرن من الموضوعات الثقافية والتقنيات اللسانية. لكن المعضلة تكمن في أن الأدب. كما يعرّفه التراث النقدي. مؤسسة تحكمها أعراف النوع والتواريخ، والكتابة تعرفها ممارساتها وليس تاريخها، أي دور، والحال هذا، يمكن أن تلعبه لغة المرأة في الأدب، بحيث يتاح لها أن تفكك القيم التاريخية لتلك المؤسسة؟ سيكسو ودالي تريان في اللغة نظاما ديناميكيا وليس جسما ثابتا لا تحتاج عناصره إلى تصنيف وتنظيم، واستخدام ذاكرة الجسد الأنثوي هو الوسيلة الاستراتيجية لعزل التعتيم "الحر" الذي مارسه الرجال على احتمال الجسد الأنثوي. على استعارته وصوته، وعلى خلاصة لغته.
كيف يمكن اقتفاء أثر الخطابات الذكورية الرمزية، وتحييد علاماتها؟
جوليا كريستيفا ترتد إلى علم النفس لترصد العلاقة الدلالية الخام بين خطاب الأم وخطاب الطفل في الطور الذي يسبق تدخل المجتمع وإقحام المؤسسة، وهي هنا تدخل في نزاع "تأسيسي" مع سيكسو وإريغاري حول فيزيولوجيا المرأة كمصدر- بذاته- لاستعارتها وخطابها. لكن كريستيفا تدخل المعركة مسلحة بأنظمة وانساق نقدية تأسست خارج الحقل النسوي (الماركسية، نتائج جاك لاكان، المقاربات البنيوية وما يعيد البنيوية) وتطالب باندماج الشعريات النسوية بأنظمة التحليل الساعية إلى كشف النقاب لكشف النقاب عن أوليات قمع المرأة، وربما المجتمع بأسره. أي اندماج، تتساءل سيكسو في مقالتها الشهيرة "ضكحة ميدوزا"؟ البديل الوحيد عن الهيمنة الذكورية هو إنشاء لغة نسوية مستقلة عن خطاب الذكر وعاكسة للفارق الجنسي في الآن ذاته، ولقد انطوى زمن "تمرير" الخديعة الذكورية عبر الأسماء "البريئة" لأساطير الجميلة النائمة وساندرلا والزوجات الصينيات... "الصغيرة الضائعة في الغابة" ليست أكثر (وليست أقل) من البظر الصغير كما تأسره حلقة استعارة الذكورية!
كريستيفا تحاول منهجة النقاش حين تتحدث عن التحليل النفسي النسوي الذي يسعى إلى ترتيب فضاءات جديدة في زمن جديد، ثم تتساءل: من أي موقع وطريقة تتحدثن/ تكتبن بصورة مختلفة عن الرجل؟ إجابتها تنطلق من موقع الأم وسبيل الدلالة وترتقي في مساحة مركبة مع إجابات جولييت ميتشل Mitchell (الأم/ الهيستيريا) وكارولين هيلبرن Heilbrun "الأم/ البطلة الخنثى) وغاياتري سبيفاك Spivak (الأم/ الرحم كأداة إنتاج).
عند هذا المنعطف يبدو التركيز النسوي على اللغة مدينا لعمليات تحوّل وإبدال التصوير البلاغي السيكولوجي، كما بدأها سيغموند فرويد وطوّرها جاك لاكان في مضمار علاقة اللغة بالفانتازيا على وجه خاص.
غاياتري سبيفاك (الناقدة الأمريكية من أصل هندي، ومترجمة جاك دريدا إلى الإنكليزية) إنفردت برصدها اللامع لما يمكن تسميته بـ "عقدة ميراندا"، الشخصية النسائية المحورية في مسرحية شكسبير "العاصفة". وإذا كان توتر ثنائية بروسبيرو/ كاليبان يثير مسائل الذات والآخر، الغرب وبقية أرجاء العالم، المستعمر والمستعمَر، فإن العلاقة بين كاليبان وميراندا تفتح السؤال النسوي في الخطاب ما بعد الكولونيالي: لقد "أستُعمرت" ميراندا لأن وجودها يقتصر على أداء وظيفة "آخر الرجل" وجانبه الخفي المفكر وتجسيد "انعدام الوزن الثقافي". انتماء سبيفاك إلى الهند زودها بالقدرة على إغناء النسوية الماركسية- التفكيكية بركائز تضرب بجذورها في أعماق التربة ما بعد الكونيالية، ولعلها في طليهة فريق قطع شوطا ملموسا على طريق إتمام الزواج السعيد بين ألتوسير ودريدا من جهة، وخطاب التابع والخطاب النسوي من جهة أخرى. إنها بهذا المعنى تكمل الزواج (غير السعيد ربما) الذي سعت كريستيفا إلى إعلانه بين ماركس وفرويد ولاكان، أو الطلاق الصاخب الذي دافعت عنه الناقدة النسوية الماركسية كريستين دلفي Delphy حين تحدثت عن مفاهيم ماركسية (سليمة) ونقد ماركسي ذكوري (زائف).
وفي العقد الأخير مالت التطبيقات النقدية النسوية إلى التركيز على الرواية بوصفها مسرود الهوية الجنسية والموقع والأمثال لانكشاف الجوانب اللاواعية في تلك الهوية. ساندرا غلبرت Gilbert وسوزان غوبار Gubar قرأتا روايات جين اوستن، وماري شيللي، وإميللي برونتي، وجورج إليوت للبحث من تباينات الصورة الذاتية/ المشهد الاجتماعي بوصفها استراتيجية تعريف الهوية المؤنثة في الفن والمجتمع على حد سواء. حصيلة تلك القراءة تمثلت في العمل الهام "المجنونة في السقيفة" الذي يعد حجر أساس تطبيقي في الطور الراهن من نظرية النقد النسوي. وللمرء أن يعثر، في الصفحات الـ 718 من الكتاب الضخم، على أطروحات جريئة مفتوحة يمكن أن تبدأ من تسجيل واقعة كره الكاتبات للشخصيات اللواتي خلقناها دون الإنفكاك عن جدل تلك الشخصيات وجاذبيتها السيكولوجية، ثم لا تنتهي عند محاولة تحرير الشاعرة إميلي ديكنسون من بطريركية ذاتية التوليد تتذبذب بين الشعرية النسوية والرومانتيكية الذكورية المقنّعة.
والكتاب، من جهة أخرى، مسمار ثقيل في نعش الاتجاه النسوي الأسطوري الذي ترعرع في الأربعينات والخمسينات على حساب نورثورب فراي Frye ومارشال مكلوهان Mcluhan وتفريعات "النقد الجديد" في الولايات المتحدة. تلك كانت حقبة الالتفات إلى روحانية الجسد الأنثوي وتمثيلياته الاسطورية، وإلى العمليات الذهنية المعقدة التي تقف خلف ترسيخ أسطورة بعينها في المجتمع، ثم تنبثق عنها قبل أن تعيد إنتاجها وتكييفها وتوظيفها كأوالية سلطة ورمز. أعمال ماري دالي وأدريال ريش Rich وإنيس برات Pratt ترجيع لصدى التيار النسوي الأسطوري الذي بدأ هادئا وفلسفيا وانتهى أكثر هدوءا وأقل فلسفة. ومما له دلالة هنا هذا التيار أخلى مكانه لولادة النقد النسوي الأسود والنقد السحاقي في الولايات المتحدة، الذي يعيد الأمور إلى المربع اللغوي الأول، الأسطوري والخام حيث تنشأ الخطابات من اشتباك الماضي والعرق بالحاضر والجنس.
كتاب ساندرا غلبرت وسوزان غوبار يستمد عنوانه من شخصية المجنونة في رواية "جين آير" لشارلوت برونتي. المجتمع يقرر حبس بيرتا ماسون في السقيفة لأنها "تنهض مثل حلم مزعج، دموي وساخط وصاخب، أشبه بالكتابة التي تجرح الصمت الوقور". المفارقة تكمن في أن إخفاء الصوت المؤنث ينطوي على تحصينه ضد أثقال إرث ذكوري معاد، حتى حين يكون سياج التحصين هو الجنون والهستيريا والتواء الرمز والدلالة! ثمة حقائق غير مرئية طيّ النص المرئي، وفي قاعه الثقافي العميق حيث تتكاثر استراتيجيات القراءة "الأخرى" مثل فطر شيطاني رعته بيرتا في غياهب عزلتها...
ولأن النقد النسوي يجابه مركزية "الأدب" في التاريخ الأدبي ويعيد تدقيق الإشكالية الناجمة عن هذه الممارسة، فإنه ينطوي على تأويل تاريخي وإعادة إنشاء ولتكوين لحقيقة أن القراءة هي- على الدوام- إعادة قراءة. جوناثان كلر Kuller سال نفسه: أن يقرأ المرء كامرأة؟ ثم اعتبر السؤال فريضة مدرسية وقرر أن هذه اللعبة ليست أكثر من "القيام بدور امرأة" بصرف النظر عن جنس القارئ/ القارئة. لكن نظرية النقد النسوي نهضت على قاعدة أخرى منطقية: الذكر الذي يقرأ كنسوي ليس ناقدا نسويا لأنه يحمل في داخله (في استراتيجيات قراءته) احتمال الفرار في أية لحظة إلى عوالمه الفعلية، إلى الذكورة والبطريكية.
وما دامت أسرار "الملك الناقد" قد انكشفت أمام ابنته الغاضبة فلم لا تتأسس بلاد "النقد النسوي" على سيرورة مركبة مزدوجة من التركيب Construction والتفكيك Deconstruction .. تركيب الذات بغرض تفكيك النص.
الكاتبة- 1993

Joumana Haddad - Feminist Manifesto

مانيفست لأنوثة جديدة
جمانة حداد
(لبنان)
سيدتي سيمون دو بوفوار،
إسمحي لي أن أتخذكِ اليوم ذريعةً للحديث عني، وأن أتخذ نفسي ذريعة للحديث عنكِ. الاتجاهان واحد. قلائل يدركون.
فرنسا والحركة النسوية والعالم أجمع تحتفل هذه السنة بمرور مئة عام على ولادتكِ. دعيني أتحجج بهذه المناسبة، لكي أحكي لكِ، ومعكِ، عن الظل. عن التواضع الكاذب. عن الإجماع. عن شيء من الحكمة. عن الأنوثة. عن الأنوثة الجديدة خصوصاً.
سيدتي،
- لي صديقة تمشي في الظل كي يقال إنها في الظل تمشي. لأن المشي في الظل -هكذا لُقِّنت ودُرِّبت- مدعاة للإعجاب والإشادة والمفخرة، وإن كان نفاقاً (معظمه نفاقٌ بحت). فماذا تقولين لصديقتي هذه، وأنتِ لم تخشي الوقوف في الضوء يوماً؟ أنا، مثلاً، لا أريد الظلّ. عالياً أعلنُ لا أريده. لستُ من اللواتي يمشين بخطى مختبئة في الكواليس، لكي يتحدث الناس عن انسحابي، وترفعي عن الشهرة. هذا خبثٌ لا أستسيغه، ولا أستطيع أن أتحمّل أحداً من هؤلاء الذين يتخفّون وراءه، كسباً لـ"احترام" زائف، أو لوهم امحاء مصطنع، بينما يسيل لعابهم سرّاً لعين واحدة ترصد وجودهم، وبنان واحدة تدلّ عليهم، وإشارة واحدة في مقالة "تفيهم حقّهم المهضوم". لا يعني ذلك طبعاً أن كل توارٍ مزوَّرٌ، وكل ظهورٍ صادقٌ (الخلط والتعميم مستحبّان، لأسباب متنوّعة، في أذهان الغالبية). ولا هو يعني أن ألهث وراء الضوء. ولا هو يعني أن أبيع روحي على حساب عزلتي وكتابتي وحياتي الداخلية والشخصية. بل يعني أن أكون كما أنا، أي امرأة تؤثر السير بخطى قوية، واثقة، علنية، مشمسة، مشمسة خصوصاً، حتى لو كلّفتها هذه الخطى الكثير الكثير.
وهي تُكلّف. لا بأس أنها.
- لي صديقة ثانية تمشي في محاذاة الحائط كي لا ينتبه إليها قنّاصُ نجاحٍ فيرشقها بحجار حسده. "إدّعي الموت"، قيل لها، "كي لا تنقضّ وحوش الغيرة عليك. الوحوش لا تحبّ الجيف، بل هي تبحث عن فرائس حيّة". فماذا تقولين لصديقتي هذه، وأنت لم تخشي القنص والقنّاصين يوماً؟ أنا، مثلاً، أرفض المشي في محاذاة الحائط. عالياً أعلنُ أرفضه. بشرتي الرقيقة تتحمل من رضوض الحجار أكثر بكثير مما توحي. وقد تحملت. التواضع درعٌ وإن تكن كاذبةً، يشاع؟ ربما. لكني لا أريد مثل هذه الدرع. هجمات الوحوش لن تجعلني أمشي بخطى متباطئة وحذرة في محاذاة الحائط، تجنباً للتنكيل والتشويه. لا يعني ذلك أن أتعجرف، وأن أصاب بفقدان البصيرة. ولا هو يعني أن "أصدّق نفسي"، وأتجاهل الآخر. بل يعني أن أكون كما أنا، أي امرأة تؤثر شقّ الطرق المجهولة والصعبة وغير الآمنة، وصولاً الى ما يشكل اكتشافاً جديداً، وأفقاً مفتوحاً، في الحياة وفي الأدب، حتى لو كلّفتها هذه الطرق الكثير الكثير.
هي تُكلِّف. لا بأس.
- لي صديقة ثالثة تريد أن يحبّها الجميع بلا استثناء. وأن يقدّرها الجميع بلا استثناء. وأن يمدحها الجميع بلا استثناء. "إياكِ ومعاداة الناس"، قيل لها، "إكسبي ودّ الجميع حتى لو اضطررت الى الضحك عليهم". هي تضحك. ملء ريائها تضحك. فماذا تقولين لصديقتي هذه، وأنت لم تخشي الأعداء يوماً؟ أنا، مثلاً، أزدري الإجماع. عالياً أعلنُ أزدريه. فالإجماع عندي يعني القطيعية. ويعني أن الشخص المجمَع عليه لا لون له ولا طعم ولا رائحة. لا أحتاج الى ودٍّ مسايِر كي أشعر بالأمان. لا أحتاج الى إرضاء الآخرين كي أشعر بالرضا عن ذاتي. لا أحتاج الى حماية مشاعر، ظاهرُها مغلّفٌ بالتقدير والمجاملة، وباطنها مفخّخ بالكراهية والحقد. فإذا كان لا بدّ من أعداء (هم لا بدّ منهم)، فليكن أعداء. خارج الدمغة الفردية، لا أريد شيئاً يُذكَر، لأن لا شيء يُذكَر. هذا لا يعني الخروج القسري عن السرب والتميّز "بالقوة"، لأن نتيجة التميّز بالقوّة فولكور سخيف. ولا هو يعني استفزاز الكراهية والحقد بلا مبرّر. بل يعني أن أكون كما أنا، أي امرأة إشكالية، لا امرأة طبق الأصل عن النساء. امرأة ذات رأي خاص، وأفكار خاصة، وموقف خاص، لا عنصراً من عناصر المشهد النمطي السائد والمكرّر والواحد، حتى لو كلّفتها هذه الخصوصية الكثير الكثير.
هي تُكلِّف. ولا بأس.
عزيزتي سيمون،
ييمكنني الاسترسال معكِ الى ما لا نهاية حول صديقاتي هؤلاء، وأحسبني سأفعل، في مناسبة أخرى. لكن المغزى كل المغزى هو أن أقول لكِ، لهنّ، ولي، إني هكذا. أجل، هكذا أنا. أحبّ أكون من أكون. وهذه هي في رأيي الأنوثة الجديدة التي نحن في حاجة إليها اليوم. أنوثةٌ لا تخاف حقيقتها. لا تخاف قوّتها. لا تخاف هشاشتها. لا تخاف طمعها. لا تخاف فجاجتها. لا تخاف شراستها. لا تخاف نعومتها. لا تخاف خسائرها. لا تخاف فضولها. لا تخاف صراحتها. لا تخاف جنونها. لا تخاف أخطاءها. لا تخاف موهبتها. لا تخاف جمالها. لا تخاف لغتها. لا تخاف شبقها. لا تخاف متطلباتها. لا تخاف نقائضها. لا تخاف طيشها. لا تخاف نضجها.
أنوثةٌ، في اختصار، لا تخاف أنوثتها.
لا أزعم أني نموذجٌ يُحتذى. البتة. على الاطلاق. ولا أدّعي امتلاك الأجوبة. بل على العكس من هذا تماماً: إن أنا سوى أسئلتي وأغلاطي. لكن حان الوقت، منذ وقتٍ، كي لا نخشى الخروج على المعادلات الجاهزة للأنوثة. وللكتابة. وللحياة.
أما الرجعيون والخبثاء والكارهون والجبناء والمعقّدون والبلهاء (إناثاً وذكوراً)، فليذهبوا حيث يشاؤون أن يذهبوا. هناك، لن يربحوا سوى الظلامية والتحجّر والغيرة التي تنهش عيونهم وقلوبهم وعقولهم و... أقلامهم.
أما نحن، بنات الأنوثة الجديدة، فحيث نحن ذاهبات سنخسر. سنخسرهم، سنخسرهنّ، بالتأكيد. وهذا لنا ربح عظيم!

mardi 1 juillet 2008

The Bahrain University Conference on Edward Said

I strongly advise you to visit Jehat.com for complete information about this important event

إدوارد سعيد داخل المكان



كلية الآداب بجامعة البحرين
تنظم ندوة فكرية بعنوان
(إدوارد سعيد داخل المكان)
فعاليات الندوة الفكرية
2-7 ديسمبر 2003م
• أ.د. إبراهيم عبد الله غلوم - المثقف داخل المكان / داخل القضية

• د. نهى بيومي - الخاص والعام وقلق الهوية

• د. نادر كاظم - إدوارد سعيد و"الاستشراق" والتلقي العربي

• د. كولن كافال - Teaching American Studies in the Middle East

• د. منيرة الفاضل - إدوارد سعيد وما بعد الكولونيالية

• د. محمد السيد - إدوارد وديع سعيد ناقداً إعلاميا

• أ . محمد البنكي - (حلقة نقاش) حول مساهمات إدوارد سعيد

• فعاليات ثقافية وفنية مصاحبة (حلقة نقاش / تشكيل / معرض كتب / أفلام )

• سيرة موجزة في صور

المثقف داخل المكان / داخل القضية
أ.د. إبراهيم عبد الله غلوم
عميد كلية الآداب
hssj@admin.uob.bh
تنطلق فعاليات ندوة "إدوارد سعيد داخل المكان" من اعتراف مؤكد بمساهمات هذا المفكر العربي المتعددة على أكثر من صعيد. صعيد النظرية في علوم الإنسان، وصعيد التحليل المعرفي المقاوم لظاهرة الاستشراق، وصعيد الدراسات المقارنة، وصعيد موقف المثقف المسئول، وكيفية صياغة دوره ومقاومته لما يخلّفه السياسي من انهيارٍ للمعرفة والأخلاق في آن.
هذه وغيرها مستويات حيوية مكّـنت إدوارد سعيد لأن يواجه الكولنيالية وما بعدها بذات الضراوة، ودون أن تتنازعه هوادة، أو تخترقه شكوك، حتى مع فكرته حول الدولة العلمانية الواحدة المشتركة التي بدأ البعضُ يثيرُ من خلالها الغبار حول سيرة المفكر الراحل وموقفه من القضية الفلسطينية.
إن هذه الندوة التكريمية التي تقيمها كلية الآداب بجامعة البحرين لا تستدرجُ درساً علمياً شاملاً لجهود مفكرٍ شغل الأوساط العلمية العالمية طوال عقود ثلاثة من الزمن تقريباً وإنما تستدرج حضور المكان الذي خرج منه إدوارد سعيد ليكون ملتبساً فيه، متورطاً بحضوره عبر اجتهادات معرفية عميقة متوغلة، جعلته - حقاً- داخل المكان / القضية، يمازجُ كشوف الفلسفة والأخلاق والسياسة والثقافات، ويعاين المركزيةِ المعرفيةِ لدى الآخر، واضعاً قضية العرب الكبرى (القضية الفلسطينية) في سُدّة الامتحان الصعب للنظرية من جهة، وللمواقف العملية اليومية للمثقف من جهة أخرى.
لقد عاش مثقفون ومفكرون كثيرون بين ظهراني القضية الفلسطينية فهل استطاعوا أن يتجسدوا داخلها كما استطاع ذلك إدوارد سعيد؟؟
لا شك أن جهوده العلمية المعروفة اليوم مفكراً ومثقفاً وإنساناً تُجيب على ذلك بثقة كبيرة، وهي من أجل ذلك تجعل الثقافة العربية والأمة العربية أمام نموذجٍ منفرد لمثقفٍ يقاوم تيار العولمة منذ جذورها الكولنيالية الأولى، ويحلّل نسيجها الثقافي النظري، ويكشف في سياق ذلك خواءَ السياسي مستعمِراً أو مستعمَراً، ويفني عمره ملتزماً بقضيته الإنسانية العادلة.
وإني في ختام هذه الكلمة القصيرة أوجه الشكر العميق لسعادة رئيسة الجامعة الدكتورة مريم بنت حسن آل خليفة التي أتاحت انعقاد هذه الندوة باسم كلية الآداب، وأشكر دائرة الإعلام والعلاقات العامة بالجامعة، كما أشكر أعضاء اللجنة المنظمة والباحثين والعاملين في مطبعة الجامعة وكل من ساهم في إنجاز هذه الندوة الفكرية.
*****
الخاص والعام وقلق الهوية
قراءة طباقية لسيرة ادوارد سعيد الذاتية
د.نهى بيومي
المحاضر بمركز الدراسات الفرنسية
nohabayoumi@hotmail.com
يقدم ادوارد سعيد في سيرته الذاتية سرداً حياً لتجربة إنسانية نابضة عاشت الترحال في الأمكنة والثقافات وعبرت الخط الفاصل بين الشرق والغرب مخترقة الحواجز لكنها محتفظة بصلة عضوية بمكان نشأتها. هو الفلسطيني الأميركي الذي عاش حياتين منفصلتين: حياته الأكاديمية وحياته السياسية، والذي صور الطبيعة الترحالية للوجود الفلسطيني وشهد على مآزقه. ومع انه أسير ارتباط ثقافي ثنائي، إلا انه رفض تقييد نفسه بهذه الثنائية. فالبحث في أصوله ليس أمرا ماهويا بل كشف لماضي هو بمثابة السطح وحاضر يرى إليه وهو بمثابة العمق. رأى الأب الهوية مشكلة، لذلك اسند إلى ابنه الهوية الأميركية مقتنعا أنها المخرج والمستقبل. رأى الأب في ارتخاء العامود الفقري لابنه مشكلة فأرسله إلى أميركا للعلاج وللدراسة أيضا، ففي استقامة القامة والشهادات المخرج والمستقبل. رأت الأم في ابنها طفلا موهوبا فدفعته لتذوق الأدب وتعلم العزف على البيانو. لم يصطف في سيرته في صف موالاة الذات المثالية والمتعالية في صفاتها، بل كشف حناياه الداخلية المنقوشة بالجروح النرجسية وبإحساس الفقد والحرمان وضعف الثقة بالنفس والهشاشة وعدم الاستقرار، كما كشف حبه الكبير لأمه وتمرده على سطوة أبيه وعشقه المتلعثم للنساء في مقتبل الشباب. فخروجه عن التنميط الذي حاول الأهل والمدرسة إخضاعه له، قاده إلى النقد المتمرد على القوالب الجاهزة، المترصد لآليات القهر والتسلط. وكتابة سيرته منذ تبليغه خبر مرضه القاتل جعلها حية تواقة إلى استرداد وابتكار صورها الدافقة حياة، كما جعل العاطفة الجياشة عنوانها، ففتح صدره وحيزها لخلجات قلبه المتمسك بالحياة.
1- السيرة / السجل الشخصي مصدرا مضادا للتاريخ:
إذا كانت السيرة الذاتية كالمرآة تتيح فتنة الكشف، كشف الذات والآخر، فإنها ولا ريب تعكس الذات في علاقتها بالآخر، في إطار يحدده التاريخ الخاص والعام. وحين نعترف بان الأفراد فاعلين اجتماعيين في التاريخ، وأن التاريخ المدون عموما، هو تاريخ أهل السلطة وجيوش الحروب و الاحتلالات والاستعمار، عندها تكتسب السيرة الذاتية أهميتها من حيث تشكيلها مصدرا مختارا من مصادر التاريخ الذاتي/الاجتماعي. إذ ينفتح التاريخ فيها على الفاعلين الذين يقدمون بعض الوقائع من وجهة نظرهم المبنية على تجربتهم. وهل كتابة التاريخ شيء آخر غير تدوين وجهات النظر؟
ينفتح التاريخ في السيرة الذاتية على ضحاياه، أي على من حرم من الكلام، ليصير كلامه أداته في المجابهة. تراهن السيرة الذاتية على إعطاء الكلام المبني على الخبرات والتجارب، فسحة تستهدف إعادة بناء النظر إلى بعض القضايا الخاصة/العامة، وإفشاء المسكوت عنه. إنها السجل الشخصي الذي يمكن اعتباره مصدرا مضادا للتاريخ، يعلن الصامت والمصمت فيه، ويبلّغ الوجه الآخر للتاريخ السياسي/ الثقافي /الاجتماعي /الاقتصادي . ومع تغير وجهة النظر إلى القضايا التاريخية وعلى هذه المستويات كافة، الذي يعود في جزء كبير منه إلى جهود المؤرخات النسويات والى أطروحات النقد الما بعد استعماري والى الأصوات المضادة للإمبريالية داخل العالم المتقدم، التي تتجاوز التاريخ المغلق الغافل لتجارب الفاعلين الاجتماعيين فيه؛ فان السيرة الذاتية تنحاز إلى محور الممارسات اليومية التي أهملها التاريخ، فتبحث في الحميم الذي يعطي الذات مكانة مميزة.
على أن هذا النوع من الإفصاح/الشهادة يخضع لقواعد العيش ومسرحة الذات لذاتها. ذلك يحيلنا إلى التركيز على شروط إنتاج الخطاب السير ذاتي، وليس فقط الاهتمام بمضمونه. من هنا فان دارس السيرة الذاتية يتعامل مع هذه المادة على أنها توصله إلى ما هو " دون العادي" infra-ordinaire، مثل الحوادث المقلقة، والوضعيات النافرة كالحرب واحتلال الوطن والمرض . يتطابق هذا المنحى مع تقييم متنامي للشهادة الفردية نجد تجلياتها خصوصا في الإعلام المرئي والمكتوب، وفي الخطاب النسوي. انه عصر الشاهد بامتياز. وهو أيضا عصر استرداد السجلات المنسية أو المفقودة التي تتقاطع مع السجلات الجماعية، في فترات الأزمات السياسية والاجتماعية والثقافية، بحثا عن الهوية، " فالسيرة الذاتية من أكثر أجناس الأدب الحديث انشغالا بقضايا الهوية والموقع.فانشغالها بالهوية لا يقتصر على تناولها للهوية الفردية التي ينطلق منها المشروع السير ذاتي نفسه، ولكنه يتجاوزها إلى الهوية القومية أو الوطنية العامة.كما أن اهتمامها بالموقع لا يقتصر على المكان الذي تعيش فيه الذات وتتعامل معه، ولا على الفضاء الأوسع وهو الوطن، أو الأشمل وهو العالم الذي قد تتحرك فيه الذات
وتتجول في فيافيه، وإنما يتناول الموقع من حيث دلالاته المتراكبة: موقع الذات في المجتمع ومكانتها فيه، وموقع الفرد من الجماعة التي يعيش فيها ومكانته عندها، والموقع باعتباره جغرافيا الذات و العالم".
من هنا تأتي أهمية دراسة سيرة ادوارد سعيد الذاتية " خارج المكان" التي تجسد الانشغال في مسألة الهوية في أزمنة مضطربة، وفي أمكنة تعرضت لهزات سياسية/عسكرية/ثقافية. فهو رسم منذ المقدمة حدود سيرته التاريخية، لكن التاريخ بحروبه وثوراته واضطهاده القومي لا تهم الكاتب مباشرة في السيرة كي يسردها واصفا وشارحا. فهو ليس خادم المؤرخين، ومع هذا فإن التاريخ يدهشه ويستوحي منه، مثل كشاف النور الذي يدور حول الوجود الإنساني مضيئا إمكانيات غير معروفة وغير متوقعة، التي لا تظهر في الأزمنة الرائعة والهانئة، بل تبقى مخبأة. يقول: " هو سجل شخصي غير رسمي عن تلك السنوات المضطربة التي عايشتها منطقة الشرق الأوسط. فوجدتني أروي قصة حياتي على خلفية الحرب العالمية الثانية وضياع فلسطين وقيام دولة إسرائيل وسقوط الملكية في مصر والحرب الأهلية اللبنانية واتفاقية أوسلو." فهل يمكننا القول أن ادوارد سعيد يكتب سيرة سياسية؟ ليس تماما، ذلك لأن المناخ التاريخي يضيء فقط ويكشف بعض المسائل الوجودية المهمة المرتبطة به وبعائلته، مثل النفي والإقصاء، والتنقل في الأمكنة، والنسيان والتذكر، والحنين والتعلق العاطفي.بماذا يحلمن يقاربون والمستبعدون، ما الذي يمثله استرجاع المكان-الأم لهم؟ بما يفكر من يقارب الموت ؟ هل بشيء آخر غير المكان-الأم واللغة-الأم؟
2- السيرة والحدود المتداخلة
إذا كانت سيرة ادوارد سعيد الذاتية ليست تاريخية تماما، بل تنويعات على موضوع التاريخ، وإذا لم تكن سياسية تماما، بل انحراف عن مدار السياسة، فما هي؟ يقول في خاتمة سيرته مستخلصا موقفه الفكري الذي توصل إليه:" أرى إلى نفسي كتلة من التيارات المتدفقة. أؤثر هذه الفكرة عن نفسي على فكرة الذات الصلدة، وهي الهوية التي يعلق عليها الكثيرون أهمية كبيرة (...) تتدفق تلك التيارات، مثلها مثل موضوعات حياتي، خلال ساعات اليقظة. وهي، عندما تكون في أفضل حالاتها، لا تستدعي التصالح ولا التناغم.إنها من قبيل " النشاز"، وقد تكون في غير مكانها، ولكنها على الأقل في حراك دائم في الزمان وفي المكان وبما هي أنواع مختلفة من المركبات الغريبة، لا تتحرك بالضرورة إلى أمام، وإنما قد يتحرك أحيانا واحدها ضد الآخر، على نحو طباقي ولكن من غير ما محور مركزيّ." إن نفيه مركزية الذات/الهوية، وتأكيده حركتها في الزمان والمكان بكيفيات متعارضة بين حركة مندفعة إلى الأمام وأخرى مرتدة عليها، وإعلانه عدم تناغمها و نشازها، يؤكد الحدود المتداخلة بين الخاص والعام. على انه تداخل لا يدل على الانسجام بقدر ما يدل على التنافر بين الطاقة الحرة والطاقة المقيدة، وبين سجليّ العاطفة والتصور.
انطلاقا من هذا المصطلح الموسيقى "الطباق" الذي كنّى به هويته - وهو استعارة حاول من خلالها التوغل في تراجيدية الحرمان والإقصاء والعيش " خارج المكان"، في محاولة لتحرير نفسه من هذا القيد - سنحاول دراسة خطابه عن الخاص/العام. لجأ ادوارد سعيد إلى الكناية مستبدلا ثبات هويته وروايتها المنسجمة بنقيضها وذلك لاستحالة تحقيق الأمر بالنسبة إليه. ونعزو هذه الاستحالة إلى ضياع فلسطين وتاريخه الذي أقعده في لغتين وثقافتين ومناخين، وما يفرقهما اكبر مما يجمعهما. وفقا لقاموس المنهل الطباق هو "لحن يضاف إلى آخر على سبيل المصاحبة"، وهو مصطلح تقني في التأليف يقتضي أن نطابق عدة ألحان مع بعضها. ووفقا لقاموس لاروس، هو الفن الأفقي في الموسيقى حيث نطابق بين عدة ألحان، لكن لكل لحن هويته الخاصة به، مع وجود تناسق ما فيما بينها؛ تستخدم هذه التقنية في الموسيقى المتعددة الأصوات. أما ادوارد سعيد فانه يشرح " النقد الطباقي contrapuntal crticism قائلا: تثار في تقابلات الموسيقى الكلاسيكية الغربية تيمات مضادة لبعضها البعض، مع منح تميز مشروط مؤقت فقط لأي واحدة منها؛ إلا أنه يوجد في تشعب النغمات الناتج، تناغم ونظام، أي تفاعل منظم. وبالطبع فإن البادئة counter (مضاد أو معاكس) في لفظ counterpoint ( الطباق-التقابل) هو تعبير عن التضاد وتستخدم تعبيرات مثل " نغمة ضد نغمة" في التقنية الموسيقية للتقابلات (...) النقد ألتضادي عدواني لأنه يفصل. والنقد التقابلي محب أو ودود لأنه الوصل (...) إن هدفي، الأساسي ليس الفصل بل الوصل" .( الثقافة والإمبريالية). لقد طبق ادوارد سعيد هذا المصطلح على رؤيته لمسألة الهوية، فهو يطرحها على أنها تيارات متعددة الأصوات متنافرة ومنسجمة، فأوجد بذلك علاقة بين الخاص والعام أكثر رهافة من التضاد، تجسد الارتباط رغم التوتر بينهما، نافيا بذلك العلاقة الخطية بينهما، ومؤكدا تعقيدها.
وبما انه لا يمكننا فصل مسألة الهوية عن مسألة علاقة الخاص بالعام، فانه لا يمكننا تجاوز الطباقية التي اقترحها علينا(تكامل الشيء وضده في الآن نفسه، وهو مفهوم وظفه في منهجه كناقد أدبي وشكل احد أوجه تكوينه النفسي). على أننا مثله نحتفظ "بالتشكيك" في مدى نجاح هذه العملية:" والواقع أني تعلمت، وحياتي مليئة إلى هذا الحد بتنافر الأصوات، أن أؤثر إلا أكون سويا تماما وأن أظل في غير مكاني". وقد آثرنا استخدام هذا المصطلح، ذلك لتحوله إلى مفهوم يقدم رؤية الذات إلى ذاتها في علاقتها بالآخر، والذي يمنح امتدادا Etendue إلى الهوية، كي لا تحد في المكان والزمان المأزومين. في هذه المساحة الزئبقية، سوف نحاول استجلاء الطباق في خطابه بين الخاص والعام.
إن أطروحة البناء الاجتماعي للواقع أفادت من حيث طرحها تجاوز التعارضات الكلاسيكية بين الفردي والجماعي، والذاتي والموضوعي، والخاص والعام، بحيث أن المجتمع هو إنتاج إنساني، كما انه واقع موضوعي، وان الإنسان هو نتاج اجتماعي. تجعل هذه العلاقات المتشابكة الهوية متعددة الأبعاد. وادوارد سعيد الذي استفاد من منهج فوكو في الكشف عن الخفي الذي يتحكم على نحو لا واعي في التفكير الغربي حول الشرق، طبقه على نفسه في رحلة كشفه عن رؤيته لذاته وللآخر، وباعتماده فرضية النظام المعرفي الشارط للتفكير قد كشف في سيرته عن "عالمين مختلفين كليا بل متعاديين...ولا نعمت مرة بشعور من التناغم بين ماهيتي على صعيد أول وصيرورتي على صعيد آخر. وهكذا فالكتابة عندي فعل استذكار، وهي إلى ذلك، فعل نسيان، أو هي عملية استبدال اللغة القديمة باللغة الجديدة".
أردنا من هذا العرض تبيان أن سيرة ادوارد سعيد مبنية على موقف فكري يجعل لمعالجتها مساقا مميزا يراعي الطباق لديه بين الخاص والعام، بين بناء ذكورته ورؤيته للنساء، وبأنه لا يمكننا فصل خطابه عن نشأته في فلسطين والقاهرة ولبنان، عن خطابه حول عيشه في أميركا، ولا خطابه عن النظام الثقافي/الاجتماعي في البيت، من الخطاب عن النظام الثقافي/الاجتماعي في المدرسة الكولونيالية، ولا خطابه عن فلسطين من خطابه عن أميركا. فهي كلها تشكل سيمفونية وجوده واستراتيجياته في التذكر والكتابة.
3- السجل الشخصي/السجل العام
ادوارد سعيد، هذه الشخصية الاصطفائية، والمتحدية لمعرفتها ولمعارف الآخر، بحثا عن " الانعتاق والتحرر من القوالب الجامدة للعائلة والدين والقومية واللغة أيضا "، قدم في هذه السيرة توجها فكريا يقوم على عدم الفصل بين الخاص والعام، كأطروحة فكرية شمولية ترى إلى الكائن في رمته بعيدا عن تجزئته أو تجزئة العوامل الثقافية والسياسية والاجتماعية التي أثرت فيه وساهمت في تكوينه.
إن إخراج الذات ومسرحتها mise en scène فعل ملاصق لكتابة السيرة الذاتية، يشير إلى رؤية الذات لذاتها وللأخر وللعالم. فما الذي عرضته ذاكرة ادوارد سعيد المعرفية وذاكرته الشعرية على " مسرح الذاكرة " ؟
وضع الكاتب إطارا برهانيا للاستدلال cadrage argumantatif وهو التوثيق بين الخاص والعام وتعاضدهما في تكوين هويته. وقد قصدنا بالإطار كمصطلح من مصطلحات تحليل الخطاب، إن إبراز أماكن وقيم معينة واختيار معطيات وتقديمها إلى القارئ تشكل جميعها تحضيرا للبرهنة، وهي أكثر من مجرد وضع عناصر وتقديمها إلى القارئ، إذ يشكل استخدامها الخطوة الأولى من اجل الإقناع. فلو نظرنا أولا إلى المبررات التي يقدمها الكاتب والتي دفعته إلى كتابة سيرته، سيتبين لنا إنها مبررات تجمع ما بين السجل الشخصي والسجل العام. إذ تتطابق سيرته مع محطات/صدمات من التاريخ العربي والدولي والفردي، كما ذكرنا سابقا. والربط بين التجربة الفردية microhistoire والتجربة الجماعية macrohistoire هو في صلب التساؤلات الراهنة للمؤرخين الذين يستخدمون الطرائق المتبعة في الانتروبولوجيا، التي تركز على الفاعل والفرد، وعلى الطريقة التي تنبني بها التجربة، حيث يتم الربط بين التاريخ والذاكرة، بين علاقة الفرد بالجماعة، وبناء الهويات وموقع الفرد فيها. لم يجد بدا ادوارد سعيد من استخدام العمل الميداني الانتروبولوجي في سيرته، الذي يقدم الدلائل على مدى تعرضه إلى عنف التاريخ، خلال المرحلة الاستعمارية و نكبة فلسطين. فلم يخضع الأفراد المتفردين في فرديتهم وبشكل مباشر إلى دائرة الجماعة، كما حدث خلال حروب هذا القرن ونكبة فلسطين وتفكك الاستعمار والعولمة. هكذا يمكننا فهم التلازم بين التاريخ الذاتي والجماعي، الخاص والعام، على انه إبراز للانا في التاريخ.
فلننظر إلى الدلائل التي يقدمها حين استعرض دوافع كتابة سيرته،
أولا، لاحظ الكاتب إن الفارق بين لغتيه العربية والإنكليزية مصدره فارق بين عالمين مختلفين ومتعاديين " العالم الذي تنتمي إليه عائلتي وتاريخي وبيئتي وذاتي الأولية الحميمية- وهي كلها عربية - من جهة، وعالم تربيتي الكولونيالي وأذواقي وحساسياتي المكتسبة ومجمل حياتي المهنية معلما وكاتبا من جهة أخرى". إلا أن التناقض بين هذين العالمين المؤثرين في حياته، دفعه إلى توسيع مجال هويته وفتح حدودها، مؤكدا أنها " تتكون من تيارات وحركات لا من عناصر ثابتة جامدة".
ثانيا، إثر أحداث 67 قرر العودة السياسية إلى العالم العربي، لكن العالم العربي قد تغير في هذا الوقت وما عاد يمثل عالم طفولته " التي دمرتها أحداث 1948 والثورة المصرية والاضطرابات الأهلية اللبنانية التي بدأت عام 1958". فيتبين لنا مدى التشابك بين ظروفه الخاصة والظروف العامة التي أحاطت عيشه آنذاك في المنطقة العربية. ومع وعيه النقدي بارتباطه بثقافتين متناقضتين، إلا انه رفض تقييد نفسه بتناقضهما، فوضع لسرده السير ذاتي مهمة حياكة الجوامع بينهما:" كنت أشعر بوجود هوة من سوء التفاهم تفصل بين عالمي الاثنين، عالم بيئتي الأصلية وعالم تربيتي، فإن مهمة تجسير تلك الهوة إنما تقع عليّ وحدي دون سواي." لقد كانت مهمته مضاعفة: التوثيق بين ثقافتين/عالمين/هويتين، والتوفيق بين العالم العربي في طفولته والعالم العربي فيما بعد، خصوصا وانه اختار استعادة هويته العربية بوصفه "عربيا بالاختيار". ولا يسعنا في هذا التصور إلا اعتبار عودته إلى الطفولة محاولة لإعادة بناء الذات وفق تصورها وثقافتها المركبة المكتسبة " أعدت قراءة حياتي المبكرة بما هي حياة من البحث عن الانعتاق والتحرر من القوالب الجامدة للعائلة والدين والقومية واللغة أيضا- قراءة تعيد إليّ ما كنت أرغب فيه من تكيف أفضل وأكثر تناغما بين ذاتي العربية وذاتي الأميركية." وع"عربي أدت ثقافته الغربية لعبت دورا هاما في استعادته ثقافته العربية، وصولا إلى فتح تخومهما واستنهاض حوارهما. يقول: "عربي أدت ثقافته الغربية، ويا لسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربية، وإن تلك الثقافة، إذ تلقي ظلال الشك على الفكرة القائلة بالهوية الأحادية، تفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات." هكذا استولد نفسه من جديد في خروجه على قيوده الخاصة والقيود العامة.
ثالثا، إن فكرة التقابل بين عالمين مؤثرين في حياته، هو محرك كتابة السيرة، انه " العالم العربي، حيث ولدت وأمضيت سنواتي التكوينية، كما في الولايات المتحدة حيث ارتدت المدرسة والكلية والجامعة". فهذا هو الإطار الذي يريد تثبيت صورته فيه، بعيد إبلاغه خبر مرضه.
رابعا، إن تغير حياته وحياة أهله وأقربائه يعود إلى تغير هيئة فلسطين ومعالمها تدريجيا مع تصاعد شراسة الاحتلال " اكتشفت مجددا أن ما كان شبكة من البلدات والقرى عاش فيها أبناء عائلتي الموسعة ذات يوم- القدس وحيفا وطبريا والناصرة وعكا- أضحت الآن مطارح إسرائيلية تعيش فيها الأقلية الفلسطينية تحت السيادة الإسرائيلية...مع حلول ربيع 1948 كانت عائلتي الموسعة كلها قد أجليت عن المكان وعاشت في المنفى منذ ذلك الحين.على أني في عام 1992 تمكنت، للمرة الأولى منذ مغادرتنا عام 1947، من زيارة المنزل الذي تملكه عائلتي في القدس الغربية والمنزل الذي نشأت فيه أمي في الناصرة ومنزل خالي في صفد....وإذا هي في زيارتي الثانية (1998) يسكنها جميعها ساكنون جدد ".
خامسا، أدرك صعوبات السرد بالنسبة إلى الفلسطينيين، بسبب تقطعه بالمعنى القومي وغياب خطيته وتفتت مركزه. ذلك جعل السرد الفلسطيني متشظي. لذلك خشي من غياب تأريخ حياتهم المضطربة. انطلاقا من هذا اقتنع بجدوى هذا الكتاب " الذي يكشف-قدر ما أستطيع- من حياتي، خصوصا بين العام 1935، عام مولدي، والعام 1962، الذي كنت فيه على أهبة نيل شهادة الدكتوراه. وهو سجل شخصي غير رسمي عن تلك السنوات المضطربة التي عاشتها منطقة الشرق الوسط. فوجدتني أروي قصة حياتي على خلفية الحرب العالمية الثانية وضياع فلسطين والحرب الأهلية اللبنانية واتفاقية أوسلو."
كان لهذا التقابل بين الخاص والعام في سرده، وإمساكه بعالميين/ثقافتين مؤثرين على حياته ونمط تفكيره، نتائج ايجابية. إذ استدعى هذا التقابل، توسيع هويته وبناءها بشكل دينامي متحرك ومتفاعل، وتجسير الهوة بين هذين العالمين، ناسجا جوامعهما المستترة، معترفا بفضل الثقافة الغربية التي أعادته إلى ثقافته العربية؛ مدفوعا إلى كتابة سيرته الذاتية استنادا إلى هذه المتغيرات الخاصة والعامة التي دمغت تجاربه وعناصر أزمنته وأمكنته، هو الذي تنقل وعاش بين أمكنة متعددة بسبب احتلال فلسطين. رصد هذه المتغيرات محاولا بذلك بناء تاريخ ينطلق من الخاص وعلى خلفية العام، حفاظا على تجارب وحيوات من التفتت والضياع، وبحثا عن موسيقاه، فيمعن في سبر أغوار تاريخه كي يصل إلى الميلودي الداخلية المختبأة، مع أن الميلودي هي أكثر المصنفات الموسيقية مراوغة. فما دليله إليها؟ إنها الذكريات.
4- الوطن غائب/حاضرا
تدعو سيرة ادوارد سعيد إلى تعميم براديغم تذكري paradigme mémoriel، يجسد التقابل بين الخاص والعام في تكوين الهويات الفردية والجماعية. وما توسل الماضي عبر التذكر إلا استدعاء للعوامل الثقافية/الاجتماعية/السياسية التي كان لها وقعا جسيما على حياته، فهو أحس آثارها ولمدة طويلة جدا بعد حدوثها، مثل ثقافة الاستعمار وسياساته، واحتلال فلسطين، فالرهانات السياسية والأخلاقية والحقوقية لهذه الوقائع تبقى حية جدا، مثل ردود فعل التيار الإسرائيلي اليميني في أميركا بعيد صدور هذه السيرة.
لقد انبنت سيرته على مفهوم الغياب، غياب المكان/الوطن، والحياة/حياته المهددة بالغياب بفعل المرض المميت. لذلك سأقلب التساؤل الكلاسيكي من: ماذا تعرفني سيرته عن حياته وحياة الآخرين، إلى ماذا يعرفني هذا الحدث الجلل وهو خسران الوطن عن سيرته؟ انه ينطلق من إبراز خطوط التصدع والانكسار في هويته faultline تلك التي أحدثت اضطرابا في ماهيته وصيرورته. فيبدأ من اضطراب المكان الذي أدى إلى اضطرابه اللغوي والثقافي، ليصل بالنتيجة إلى اضطراب هويته. جعل ادوارد سعيد من المكان مفهوما محوريا، فهو مقياس الزمن، وقوانين العيش والعلاقة بالآخرين. هكذا يفند إحساس العائلة بالوحدة في القاهرة بالمقارنة مع عيشهم في فلسطين حيث غابت الوحدة وحيث "يلازمنا دائما سائر أفراد العشيرة". " كانت فلسطين مكانا أسلم به تسليما، بما هو الوطن الذي أنتمي إليه، يعيش فيه أقرباء وأصدقاء بطمأنينة لا تحتاج إلى تفكر" ومع غيابه " كعائلة، ازددنا التصاقا بعضنا ببعض، بعد أن لم يعد من قدس إليها نعود". إن استدعاء زمن الوطن الغائب/الحاضر واستذكاره يخضع إلى ارتباطات مكانية تتحكم بالسرد. فهو لا يشوش انتظارنا الدلالي ولا يهدف إلى أن نشكل نظاما لتعاقب الأحداث، بل إن الزمن يتوقف عند محطات مكانية، بمحولاتها الزمنية والنفسية والسياسية. ففي تقطيعه زمن الحكايات التي يرويها، ورواح هذا الزمن ومجيئه بين تقدم وتأخر، وتجوال الكاتب في أماكن عديدة ( فلسطين، لبنان، القاهرة، أميركا) قد خلق إيقاعا طباقيا مكانيا وليس زمنيا. خصوصا وان السرد يتوقف عند حيز الأزمات الشخصية ومحطات الانحسارات العامة.
يتوقف الكاتب عند وصف تغير هوية المكان/الوطن بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فالمنزل العائلي والحي وأماكن اللعب فيه تغيرت معالمها " أضحت البورة حديقة عامة، والمنطقة المجاورة للبيت حيا فخما يسكنه أغنياء اليهود". وهنا من المفيد أن نذكر أن الكاتب يستخدم أسلوب التواتر والتكرار narration répétitive فتغير هوية الوطن وتغير هويته الخاصة، مترافقان ومتكرران على امتداد السيرة. فهوية بلده تعاني " تبدلا لا عودة عنه" فلقد " أجليت أسرة عمتي نبيهة عن القدس على مراحل بحيث لم يبق منها، مطلع ربيع العام 1948، غير ابن عمتي الأكبر يوسف وقد هجر بيت الطالبية عند سقوط الحيّ بأكمله بيد الهاغاناه". وفي إتباعه أسلوب التواتر والتكرار أراد استعادة المكان كحيز للمتعة وقد انقلب إلى حيز للقهر، وأرضا للانفعالات الخصبة " يغمرني الآن إدراك لهول التفكك الذي عانته عائلتنا وأصدقاؤنا، وقد كنت بالجهد واعيا له، أنا الشاهد الذي لم يشاهد شيئا في العام 1948. وحين كنت صبيا في الثانية عشرة والنصف في القاهرة، غالبا ما كنت ألاحظ أمارات الحزن والحرمان على وجوه وفي حيوات أناس عرفتهم سابقا بما هم أبناء الطبقة الوسطي العاديون في فلسطين (...) وغالبا ما كانت عمتي نبيهة تتحدث بكآبة واستفظاع وهي تصف أهوال أحداث دير ياسين-"نقلوا الفتيات عاريات إلى معسكر (هم) على ظهور الشاحنات"". ضمت سيرته أمثلة عديدة تشير إلى ملاحظته التغيرات التي طرأت على أسرته الموسعة بعد ضياع فلسطين، وهي تغيرات سلبية تنم عن الانتكاس المعنوي والمادي. الآن، ومن مسافة من الأحداث يتنبه إلى قمع التعبير السياسي في بيته، الذي يعود بالدرجة الأولى، إلى تغيير المكان/الوطن، فأي مكان آخر ومهما كان يجسد الهشاشة:" وما يستعصي عليّ تفسيره الآن هو كيف اتفق أن مسألة فلسطين وخسارتها الفاجعة، التي هيمنت على حياتنا أجيالا، وأثرت عمليا في جميع معارفنا، محدثة تغييرات عميقة في عالمنا، تعرضت لقمع نسبي من قبل والديّ: فلا هي مدار نقاش ولا تستحق منهما تعليقا (..." هكذاع فلسطين في حياتنا تم كجزء من عملية لا تسييس واسعة النطاق من قبل والدين لا يثقان بالسياسة، بل يكرهانها، لشعور بأن وضعهما في مصر على مقدار من الهشاشة لم يكن يسمح لهما بالمشاركة في السياسة ولا بمجرد النقاش فيها." هكذا يوازي بين غياب الوطن وتغييب التعبير السياسي وقمعه، من خلال منظوره إلى هذا الحدث " كان ثمة نشاز خبرناه جميعا بوصفنا أجانب في القاهرة لا نستطيع الاستعانة بوطن لنا". على أننا نستدرك للسؤال: هل إن تغير هوية وطنه الذي أدى إلى تغير في أنماط تفكيره وعيشه، حيث عاش تجربة الاقتلاع والنفي وتجربة الاستعمار، كان دافعا له لعبور الأمكنة، أي عبور الهويات ورفض السجن في هوية واحدة؟
يتقاطع هذا الموقف السياسي القمعي الناجم عن فقدان الوطن، مع موقف آخر، أشد قسوة، يعود إلى عدم استحال والدة الكاتب على وثيقة أميركية كما هي حاله وحال أخواته:" لم يكن أحد يتجشم عناء أن يشرح لنا أن وجود أمي الشاذ بيننا كما تدلّ عليه وثيقة سفر محرجة إنما هو ناجم عن تجربة اقتلاع جماعية صاعقة." فكلما حاول الكاتب أن ينسى نفسه، أن ينسى هويته، وان ينخرط في العيش، كلما وجد نفسه حاملا دلالة أعمق لهويته الفلسطينية وأكثر تراجيدية، إذ " لعبت فلسطين دورا أكثر إشكالا في النزاع النامي ببطء بين أبي وشركائه في العمل: عمتي نبيهة وأبنائها." ذلك بعد اضطرارهم إلى ترك فلسطين حيث فرع الشركة والمجيء إلى القاهرة " وعندما غادرت القاهرة عام 1951 إلى ما اعتبرته منفاي الأميركي، كانت مجمل العلاقات بين فرعي عائلتنا في القاهرة والقدس قد أصيبت بصدوع غير قابلة للإصلاح من الناحية التجارية. فشعرت إذاك أن اختفاء فلسطين هو المسؤول عما جرى." هكذا تتجاور العلاقات العائلية التي تصدعت حديثا مع صدوع فلسطين المستجدة.
في هذا السياق اضطربت هويته سواء في القاهرة أم في أميركا. فحين ذهب في الصيف إلى أميركا وهو لم يتجاوز عامه الثاني عشر وشارك في التخييم بعيدا عن أهله سرعان ما أشعرته تجربته الجديدة بهويته الأجنبية "القلقة والموقتة جدا". ليس ثمة أساليب رحيمة لإعادة صوغ ذاته مع اضطراب مكان عيشه وتناسله إلى أمكنة عديدة، إذ أدى " عدد متزايد جدا من المغادرات إلى زعزعة أركان حياتي منذ بداياتها الأولى. وفي نظري أن ما من شيء يميز حياتي على نحو أشد إيلاما -والمفارقة انه هو ذاته ما أتوق إليه توقا - أكثر من تنقلاتي العديدة عبر البلدان والمدن والمساكن واللغات والبيئات، وهي تنقلات ظلت تحركني خلال تلك السنوات(..) إضافة إلى ذلك الإحساس القويّ والتكراريّ والمتوقّع بالنفي الذي ينتزعك من كل ما هو أليف ومريح...." فما بقي من فلسطين في ذاكرته هو واقعها المعذب، فيصور الطبيعة الترحالية التراجيدية للوجود الفلسطيني، وهو يشهد على مأزق الفلسطيني بين التوق إلى كسر الحدود الفيزيائية والثقافية، والشعور بالتهديد بالنفي. فالمكان/الوطن يفترض حركة حرة باتجاهين: الدخول إليه والخروج منه. غير أن مكان ادوارد يستبعد حرية الحركة طالما أن الخارج منه هو في حقيقة الأمر مستبعد ومقصي ومنفي.
لذلك فانه حوّل المكان-الأم المصدوم إلى مقياس يقيس به الزمن والأمكنة وعلاقاته بالآخرين وبالأشياء، كما جعل منه حيزا للقص التذكري، أي حيزا لتجربة الكتابة عنه. فحول بذلك مكانه/أي لا مكانه إلى مكان للتاريخ ولقصته الخاصة، وليس هناك من مفر أمام القارئ/القارئة إلا الدخول إليه وتخيله معه، فهذه " المذكرات هي، في وجه من وجوهها، استعادة لتجربة المغادرة والفراق إذ أشعر بوطأة الزمن يتسارع وينقضي. ولما كنت قد عشت في نيويورك بإحساس موقت على الرغم من إقامة دامت سبعة وثلاثين عاما، فقد فاقم ذلك من ضياعي المتراكم، بدلا من مراكمة الفوائد." وهنا أيضا شعرت بأن قدومي من جزء من العالم في حال من المخاض الفوضوي، صار يرمز إلى أني في غير مكاني.أرى إلى نفسي هامشيا، وغير أميركي، ومنبوذا ومعيبا تحديدا في الوقت الذي صارت فيه السياسة في العالم العربي تلعب دورا متزايد الأهمية في الحياة الأميركية." لقد ظل دخيلا بشكل عميق، هذه هي الحقيقة التي يواجهنا بها رغم كسره الحدود ومحاولته تحرير حركته. ترى هل تزيل كتابة السيرة الفواصل وتمحو الحدود؟ وهل الكتابة عن مأساوية جهنمه هي الطريقة الوحيدة للخلاص منها ؟ حين افتقر إلى مكان وعاش تجربة الاقتلاع والنفي، صار من الصعب عليه إيجاد بديل له، أو استعادته عبر البديل، ذلك لأنه لا يملك المكان البديل. لذلك تبتكر الكتابة السير ذاتية المكان المفقود، أو بالا حرى موضوعا مكانيا وموقعا مكانيا.
إلى جانب تجربة النفي، عاش ادوارد سعيد تجربة الاستعمار، هو المفكر الذي عمق فهمنا للظاهرة الاستعمارية، إذ يعود إلى مرحلة تعليمه في القاهرة، وخصوصا في فكتوريا كولدج، فلقد اتسمت بالتشويه الكبير، و"بباتولوجيا القوة" وفقا لما يؤكده، إذ " كانت النظرة السائدة إلى التلامذة أنهم أعضاء، تمموا دفع اشتراكاتهم، في نخبة كولونيالية مزعومة يجري تعليمها فنونا إمبريالية بريطانية قضت نحبها، مع أننا لم نكن ندرك ذلك تماما. علمونا عن حياة إنكلترا وآدابها، وعن النظام الملكي والبرلمان (...) وعن عادات واصطلاحات لن نستطيع استخدامها في مصر أو في أي مكان آخر. ولما كان الانتماء العربي وتكلم اللغة العربية يعدان بمثابة جنحة يعاقب عليها القانون (...) فلا عجب أن لا نتلقى أبدا التعليم المناسب عن لغتنا وتاريخنا وثقافتنا وجغرافية بلادنا (...) ثم إني أدركت في قلبي أن فكتوريا كولدج قطعت نهائيا الأواصر التي تشدني إلى حياتي السابقة، وان ادعاء أهلي أني مواطن أميركي قد تهافت، فقد بتنا ندرك جميعنا أننا دونيون نواجه قوة كولونيالية جريحة وخطرة بل وقابلة لأن تؤذينا، ونحن مجبرون على تعلم لغتها واستيعاب ثقافتها لكونها هي الثقافة السائدة في مصر". تشير هذه الملاحظات الثاقبة عن النظام التربوي الاستعماري الذي نِشأ عليه صغيرا، إلى ادوارد سعيد الناقد للحالة الاستعمارية عبر تجربته الشخصية. فكشف سطوة الثقافة الاستعمارية وأساليبها التطويعية اللانسانوية الذي أوقع هويته في مآزق غياب حرية التعبير عن الذات، عن طريق إلغاء إمكانية معرفة الذات. إضافة إلى التباس علاقته باللغة
" فعلى الرغم من أن الإنكليزية أضحت لغتي الأساسية، وحصص اللغة الفرنسية في فكتوريا كولدج ليست أكثر تنويرا من حصص اللغة العربية، فقد وجدتني في وضع غريب مفتقرا إلى أي موقع طبيعي أو قومي يحدوني إلى استخدام الفرنسية. وأضحت اللغات الثلاث مسألة حساسة جدا بالنسبة إلي عند بلوغي الرابعة عشرة. فالعربية محرمة، ومن شأن " الو وغز" والفرنسية لغتهم "هم" لا لغتي أنا، أما الإنكليزية فمجازة ولكنني أرفضها لأنها لغة البريطانيين المكروهين." نجد في هذه الإشارة صدى لدور المثقف الذي ارتآه ادوارد سعيد، أن يكون " أداة لبعث الذاكرة المفقودة" وان يكون شاهدا ضد إساءة استخدام التاريخ ومظالم العصر الذي تصيب المقموعين. ولن تقف التناقضات عند حد النظام التربوي المدرسي، وتعلم اللغات الأجنبية واستبعاد اللغة الأم، بل أصابت في الصميم اسمه نفسه وهو عنوان هويته والمعلن عنها "ادوارد سعيد":" هكذا كان يلزمني قرابة خمسين سنة لكي اعتاد على " ادوارد" وأخفف من الحرج الذي يسببه لي هذا الاسم الإنكليزي الأخرق الذي وضع كالنير على عاتق " سعيد"، اسم العائلة العربيّ القحّ." كما لو أن قدر ادوارد سعيد في تسميته العربية والإنكليزية وقدر فلسطين التي دعيت زورا بإسرائيل يتطابقان.
يمزج الكاتب بين التاريخ وبين الذكريات الشخصية، فنجد امتزاج الذكريات الشخصية من حيث علاقاته بأهله مثلا، بمعلميه، بالمدرسة، جنبا إلى جنب تاريخ فلسطين، القاهرة، لبنان، أميركا، تلك الأماكن التي عاش فيها إثر ترك عائلته فلسطين. لكنه مرة يشير إلى موقفه السردي على انه شاهد على الحدث، ومرات أخرى على انه ضحية له. وهذا ينطبق على مجمل السيرة، حيث يأخذ الحدث بعده الكامل، حين يرفد التاريخ الكبير بالتاريخ الصغير، وحين يدمج الحدث النفسي/العائلي بالحدث السياسي. على أن وضعية الفاعل في الحدث نتبينها في فعل كتابة السيرة وروايتها من وجهة نظره، ومن موقف المتمرد والغاضب ضد الهيمنة الثقافية والقهر الإيديولوجي، ومن كونه لا يخضع للسيطرة فيقدم لنا معنى تحرير نفسه من هيمنة الأخر والتماهي به:" أخذت أشق طريقي بالنضال، ساعيا، بنجاح متزايد، إلى التمسك بحساسية خاصة، بل إلى تنميتها، حساسية غرضها مقاومة التسويد والسوس الإيديولوجي الأميركيين وقد فعلا فعلهما في العديد من زملائي في الصف."
هذه أبرز معالم البراديغم التذكري الذي يقدمه للقارئ والذي يعود كفعل اجتماعي إلى تاريخا نية الأفراد المرتبطة بتاريخانية الجماعة. فهو أراد بشكل مضمر/معلن قياس حياته بمقياس التاريخ، أي أن يصنع من نفسه فاعلا في التاريخ، فلا يكتفي بترك أثر فقط لنفسه. ذلك لأن ذكرياته كما يعرضها، لا يمكن اختزالها إلى مجرد عودة إلى الماضي ونقل له، بل هي رغبة وفعل. فهو حين جمع نتف من ذكريات الطفولة واليفاعة، جعلنا ندرك انه في إعادة إدخال الرغبة إلى التاريخ، يمكن للذاكرة أن تتآخى والحدث وان تظهر تراجيديته.
هذه هي استراتيجيته السردية التي قدمت للقارئ إطارا استدلاليا للسيرة، وقد وسم سيرته بخط انكسار وتصدع زلزالي، نتيجة فقدان فلسطين، إذ ارتبطت الرغبة في وطن والاستقرار النفسي والمادي بالنقص. كان من نتائجه شعور الكاتب الدائم بعدم الاطمئنان والاستقرار واهتزاز الهوية، وبأنه دائما " خارج مكانه". فالحاجة الملحة إليه حملت معها شعورا بالإحباط، هذا الوجه السافر للنقصان. وما صياغته لهذا البراديغم التذكري الذي يجمع الخاص بالعام، التاريخ الذاتي بالتاريخ العام، إلا نوع من أنواع مقاومة الإخضاع والتشريط.
لهذه الأسباب جميعها يتعذر دراسة خطاب " خارج المكان"، دون دراسة القاعدة المعرفية التي انطلقت منها السيرة والتي أسست لرؤية الهوية من منظار معين، يستحيل دونه فهم خطاب ادوارد سعيد عن ذاته وعن عائلته وأصدقائه. ذلك مكننا أيضا من استنتاج الالتقاء بين خطاب ادوارد سعيد السير ذاتي الذي وضع الخاص بالتقابل مع العام وبين خطاب النسويات الذي أكد على التشابك بينهما،ودوراهما في بناء الهوية. عرفتنا سيرته إلى تعلقه الكياني بأمه التي انفصل عنها صغيرا بناء على رغبة الأب في إكساب ابنه استقلالا ومهنة، أليس هذا ما قاده إلى استحضار المكان-الأم ودفعه إلى استعادة اللغة-الأم؟ أليست هذه هي حقيقته التي بحث عنها حين اقترب من الموت؟
إدوارد وديع سعيد ناقداً إعلاميا
د. محمد السيد
الأستاذ بقسم الإعلام
Osman.elsayed@arts.uob.bh
" إن تغطية الإسلام {بواسطة وسائل الإعلام الأمريكية} ليست تفسيراً بالمعنى الأصيل للتفسير بل إنها توكيد للقوة. إن وسائل الإعلام ( الأمريكية ) تقول ما تشاء عن الإسلام لأنها تستطيع ذلك"
"تغطية الإسلام"
لأدوارد سعيد
" ليس باستطاعتهم تمثيل أنفسهم لذا وجب ( علينا ) تمثيلهم".
كارل ماركس، الثامن عشر من برومير
للويس بونبارت
اقتباس ادوارد سعيد في
مفتتح كتاب " الاستشراق"
" إن الطب النفسي لم يستطع أن يفهم أو يقبل الجنون في لغته الخاصة به فقام عوضاً عن ذلك بمحاولة إجبار الجنون إلى التحدث إليه بلغته هو"
الجنون والحضارة
لميشيل فوكو
" حتى حين يتم الاعتراف بالضغوط السياسية الحادة التي تعتدي على الدراسات الشرق أوسطية، يبرز ميل مقلق لطرد تلك الضغوط وعدم الاكتراث بها ولإعادة توطيد السلطة التقليدية-للإنشاء الاستشراقي. ولا غنى عن تكرار القول أن تلك السلطة تنبثق مباشرة من قوة داخل الثقافة التربية تبيح لدراسي الشرق أو الإسلام صياغة جمل وبيانات حول الإسلام والشرق لم تواجه أي تحديات فعلية طوال سنوات مديدة عديدة. إذ من غير المستشرقين نطقوا و مازالوا ينطقون بلسان الشرق.
تغطية الإسلام
إدورد سعيد
مقدمة:
في عام 1991 قامت شعبة الإعلام بجامعة ماساشسوس في الولايات المتحدة بإجراء دراسة أثناء حرب الخليج الثانية لمعرفة تأثير التغطية الإعلامية لقنوات التلفزيون الأمريكي على مستوى معرفة المشاهدين الأمريكيين بحقائق الصراع في تلك الحرب وجاءت النتيجة حقاً مذهلة: كلما قضى المشاهد وقتا أطول في مشاهدة الحرب على شاشة التلفاز كلما قلت معرفته بحقائق الصراع وجغرافيته و اللاعبين الأساسين فيه. معادلة بسيط: مشاهدة أكثر تساوي معرفة أقل.
لا أعرف ذلك بالتحديد ولكنى أظن أن إدوارد سعيد لم يكن ليستغرب تلك النتيجة إطلاقا. فتلك عنده نتيجة منطقية لتغطية إعلامية:
" زاخرة بالمغالطات ويجري مجراها أعمال الخبراء الأكاديين المختصين في الإسلام، والاستراتيجيين الجغراسيين الذين يتحدثون عن " هلال الأزمة "، والمفكرين الحضاريين الذين يستنكرون آسين " أفول الغرب". ولقد زودت هذه التغطية مستهلكي الأخبار بالشعور بأنهم باتوا يفهمون الإسلام دون أن تشعرهم، في الوقت نفسه، بأن القسط الأوفر من هذه التغطية الناشطة إنما تقوم على مادة هي أبعد ما تكون عن الموضوعية. ونجد، في الكثير من الحالات، أن " الإسلام" قد أباح عدم الدقة بامتياز، بل إنه أباح شتى ضروب التعبير عن العصبية العرقية الجامحة، والكراهية الثقافية، بل حتى العرقية-وفي ذلك مفارقة ضدية واضحة. ولقد تم كل ذلك كجزء مما يفترض أن يكون تغطية للإسلام عادلة متوازنة مسؤولة".
كتاب تغطية الإسلام
تقوم هذه الورقة على عدد من الفرضيات، منها أن أهم أعمال إدورد سعيد هو كتاب " الاستشراق" الذي ولد كرد فعل لهزيمة 67 وأن هذا الكتاب هو الكتاب الأساسي الذي وضع فيه ادوارد سعيد منهجه في البحث وطور فيه أدواته التحليلية بادئاً بتاريخ حملة لويس بونبارت على مصر عام 1978. ومن بعد استخدام ذات المنهج ذات والأدوات في كتابة التالي " المسألة الفلسطينية" بادئاً بنكبة 48. تلي ذلك كتابه الأخير في هذه الثلاثية " تغطية الإسلام" و الذي جاء متأثراً بالثورة الإيرانية عام 1979.
حملة بونبارت على مصر1798، نكبة 1948، الثورة الإيرانية 1979. التاريخ لإجابة أسئلة الحاضر. تماماً كما قال نيتشه.
والفرضية الثانية تأثر ادوارد سعيد الكبير بميشل فوكو: إطارا نظرياً و منهجاً بحثياً ولغة اصطلاحية. التأثر بفوكو في نقده للفلسفة الإيجابية "Positivism" وتطبيقاتها في "جهاز معرفة" و"طريقة كلام" حول "الآخر المختلف". كان ذاك "الآخر المختلف" جنوناً، إجراميا، مرضاً، شرقاً آم إسلاماً.
والتأثر بفوكو في مركبة : ( المعرفة/ القوة)، مادة هذا المركب: الإنشاء أو الـ Discourse.
بعد هذه الفرضيات تتنقل هذه الورقة لتتعرف على ملامح النقد الإعلامي عند ادوارد سعيد. ومن ثم نتعرف على نقده الإعلامي العام Macro Level على مستوى السياق و التمثيل والسلطة كما نتعرف على بعض أدوات هذا النقد.
في مرحلة تالية نعالج نقده الإعلامي على المستوى الدقيق Micro Level وعلى دراسته للحالات الخاصة Case Studies ونتعرف على علاقة ادوارد سعيد بالنقد الإعلامي المعاصر في الولايات المتحدة.
وفي ختام هذه الورقة نذكر بعضاً مما تبقى من تجربة إدوارد سعيد ونختم بسؤال حول الأصالة Originality والجذرية أو الراديكالية عسى أن تتاح الفرصة لمناقشة هذا السؤال أوان تقديم هذه الورقة، بأذن الله.
فوكو و هيدجر ونقد الفلسفة الإيجابية Positivism "
استناداً على نقد مارتن هيدجر للفلسفة الغربية ونزعتها الإيجابية Positivism ابتداء من أفلاطون وحتى الفلسفة البرجماتية- وذلك في كتابة " نهاية الفلسفة End of Philosphy" قام ميشيل فوكو بتطوير فكرته حول اختراع " الجنون " كموضوع للمعرفة. ففي أطروحته للدكتوراه - والتي بلغت 600 صفحة والتي دافع عنها في مايو 1961 ونشرت في ذات العام تحت عنوان " الجنون واللاعقل: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" وترجمت ونشرت بالانجليزية تحت عنوان " الجنون والحضارة" عام 1973- قام فوكو في تلك الدراسة بمحاولة التعرف على كيفية " إنشاء الجنون في مقابل العقل".
The way the division between madness and reason is established.
وفيها ناقش كيف أن " الجنون" " والعقل " لا يوجدان كمفهومين موضوعيين خارج حركة التاريخ بل أن كلاهما حقيقة مُصنعة.constructed reality فقبل العصر الكلاسيكي في فرنسا كان الجنون ينظر إليه ويعترف به كنوع من "الوعي المشروع" الذي يملك "منطقة الخاص به" والذي يمثل نوعاً مقبولاً من التجربة الإنسانية ولكن حدث تغيير كبير في العصر الكلاسيكي إذ تحول " الجنون " إلى "موضوع Object "يمكن التحدث عنه ودراسته من الخارج وتم ذلك بقمع صوته الخاص به وإجباره للتكلم بلغة الطب النفسي لاحقاً.
يقول فوكو أن الطب النفسي "لم يستطع أن يفهم الجنون في لغته الخاصة به فقام عوضاً عن ذلك بإجبار الجنون إلى التحدث إليه بلغته هو " ويمضي قائلاً " أن ما نسميه بالطب النفسي ما هو إلا نوع خاص من التكتيك ذو الصفة الأخلاقية الذي يتدثر بغطاء الفلسفة الايجابية Positivism"
وبعبارات أخرى فقد قامت المؤسسة الطبية من خلال لغة خاصة وإجراءات عملية باختراع " الجنون" كمفهوم وجعلت منه موضوعاً لها يمكن دراسته " بموضوعية" ومن ثم استخرجت نتائج عنه ضمن مقاييسها الأيدلوجية "
السلطة / المعرفة Power /Knowledge
"إرادة المعرفة The will to Knowledge" هي المنظومة الثانية التي طورها ميشيل فوكو ابتداء من نقد نيتشه للفلسفة الأخلاقية في كتابيه Genealogy of Morality و كتابه الثاني الذي حاول فيه إثبات نفس المفهوم الذي يحمله عنوانه كتابه " إرادة القوة " " The will to Power" وقد ظهرت هذه المنظومة عند فوكو في صياغات متشابهة تحت عنوان عام هو " السلطة/القوة" وهذه المنظومة ترتبط بمفهوم خاص عند فوكو هو " الإنشاء Discourse" وهو مركب يجمع بين " لغة خاصة" وممارسات إجرائية تطبيقية Practices تنتجها مؤسسات تصدر باسم " العلم " " science"
وقد قام فوكو استناداً على منظومته الأولى في نقد الفلسفة الإيجابية Positivism ومنظومته الثانية ( السلطة/ المعرفة) بدارسة تاريخ الجنون والعقل في " الجنون والحضارة" وتاريخ السجون والإجرام في (التهذيب و العقوبة ) وتاريخ الطب في " تاريخ المستشفى " والجنس والأخلاق في " تاريخ الجنس"
يعد" نقد الفلسفة الايجابية " ومركب (المعرفة/السلطة) من أهم معالم الإطار النظري الذي طوره ميشل فوكو وهو إطار يصنف في اتجاهات ما وراء البنيوية poststructlist وكما ذكرت سابقاً فأنني أزعم أن ادوارد سعيد قد اعتمد اعتماداً كبيراً على هذا الإطار النظري الذي طوره ميشيل فوكو في كتبه ابتداء من " الجنون والحضارة" عام 1961 وحتى تاريخ الجنس" المجلد الثالث عام 1984 ( العام الذي توفى فيه ) إضافة لهذا الإطار النظري فقد استفاد ادوارد سعيد من " الطريقة " أو المنهج الذي استخدمه فوكو في دراساته التطبيقية على التاريخ أو دراساته المفاهيمية ككتاب " نظام الأشياء" وكتاب " علم آثار المعرفة"
وفي رأي الخاص أن التأثير الكبير لفوكو على إدوارد سعيد لا يقلل من حجم ونوعية الانجاز الأكاديمي والمعرفي لأدوارد سعيد إذا استثنينا القضية الخاصة بالأصالة.
يقول ادوارد سعيد في : الصفحة الثالثة من كتابه الاستشراق " لقد وجدت من المفيد استخدام مفهوم " الإنشاء Discourse" كما وصفة ميشيل فوكو في كتابية و علم آثار المعرفة ، و التهذيب والعقاب ، للتعرف على الاستشراق".
وقد استخدم ادوارد سعيد مفهوم الإنشاء هذا في أكثر من 97 صفحة في كتاب الاستشراق. كما اقتبس من كتابات فوكو في أكثر من 37 صفحة منه.
أما في كتاب " تغطية الإسلام" فقد خصص إدوارد سعيد فصلاً كاملاً تحت عنوان " المعرفة والسلطة " لمناقشة دور المستشرقين و الخبراء المختصين ووسائل الإعلام في " موضعة الإسلام" أي جعله موضوعاً للمعرفة.
أدوات النقد الإعلامي عند أ.و. سعيد:
يمثل كتاب " الاستشراق " الورشة والمعمل الذي طور فيه إدوارد سعيد كثير من الأدوات النقدية التي أعاد استخدامها بكفاءة عالية في كتاب " تغطية الإسلام " الذي نقد فيه تغطية وسائل الإعلام الأمريكية والخبراء " للإسلام".
تقع هذه الأدوات في مجالات: السياق Context والتمثيل Representation والسلطة Power وكلها مجالات تختص بالإطار الفلسفي والمفاهيمي والبنى العميقة و الـ Macro level وتكتسب هذه المجالات أهمية خاصة وتعطي تميزاً لمشروع ادوارد سعيد النقدي إذا علمنا أن معظم النقد الإعلامي المعاصر لتأثره بطغيان المناهج الامبريقية empirical - ما انفك يعمل على المستوى الدقيق والجزئي Micro Level وهو مستوى جد محدود وقد استخدم ادوارد سعيد أدواته النقدية لكشف ونقد الافتراضات المتضمنة في: " الجواهرانية" Essentialism" ، " الحصرية الثقافية " Cultural Exclusivim" " اللاسياسية" " Apolicsism" " اللاتاريخية" " Ahistorcism" " الأحادية "
"Monolthism"
ونقد الافتراضات المتضمنة في مفهوم " التحديث " " Modernization" الذي يعالج قضايا تطوير المجتمعات التقليدية.
وقد نقد إدوارد سعيد بقوة وذكاء استخدام الافتراضات الهشة المتضمنة في المفاهيم السابق ذكرها وكشف استخدامها في الخطاب اليومي لأجهزة الإعلام الأمريكية عن الإسلام. هذا الإعلام الذي يأخذ هذه الافتراضات كمسلمات نهائية، ومن ثم يقوم بتصوير الإسلام في والمجتمعات الإسلامية ككيان أحادي ، منقطع وجامد ويقع خارج التاريخ والصيرورة.
إضافة لذلك فقد وظف إدارود سعيد بفعالية ودراية أدوات النقد الإعلامي التي طورها الأكاديميون اليساريون في الولايات المتحدة وبريطانيا واستخدمها في تحليل تغطية وسائل الإعلام الأمريكية للإسلام .
واختصاراً، فإن أهم مجالات هذا النقد الإعلامي اليساري تتعلق بالنقد المؤسسي لإنتاج الخطاب الإعلامي، وتحليل علاقة الجهاز الإعلامي و موقعه ودوره في هرم سلطة النخبة Power Elite وعلاقة الجهاز الإعلامي بمراكز إنتاج المعرفة في مراكز البحوث والجامعات، واتصالها بالمؤسسات والشركات المالية والتجارية. وعملها داخل أيدلوجية "الرأسمالية المسئولة اجتماعياً " Responsible Capitlism اجتماعياً " والنص التالي لادوارد سعيد يمثل بعض ما أشرنا إليه :
" ليس ما تنتجه وسائل الإعلام عفوياً ولا " حراً " كلية: " الأخبار " لا تحدث فقط، والصور والتصورات لا تقفز فقط من الواقع إلى عيوننا وعقولنا، والحقيقة غير متوفرة مباشرة، وليس في متناول أيدينا تنوع غير محدد. ذلك أن الشبكات التلفزيونية والإذاعية، شأنها شأن كل أنماط وسائل الاتصال الأخرى، تلتزم بقواعد وأعراف معينة لإيصال الأشياء بوضوح، وهذه الأعراف والقواعد هي التي تشكل، في الغالب، المادة التي تقدمها وسائل الإعلام تسعى إلى الوصول إلى الجمهور نفسه الذي تعتقد أنه محكوم بنظام موحد من الافتراضات حول الواقع، فمن المرجح أن تكون صورة الإسلام ( وأي شيء عداه، في هذا السياق) موحدة، واختزالية من عدة نواحٍ، وذات لون واحد. وعليه فمن المفهوم أن مصلحتها تكمن في ترويج بعض التصورات عن الواقع بدلاً من غيرها. وهي تفعل ذلك ضمن سياق سياسي تنشطه إيديولوجية غير واعية وتسبغ عليه فعالية ونفوذاً، وهي إيديولوجية تنشرها وسائل الإعلام دون أي تحفظ جدي أو معارضة.
ويركز إدوارد سعيد نقده - باقتصادية وحصافة إستراتيجية- على المؤسسات الإعلامية " النخبوية Elite Press لما لها من سلطة معرفية تتلخص في قدرتها على تحديد الأجندة ووضع جدول الأعمال Agenda Setting لما تحتها ودونها من وسائل الإعلام الجماهيرية ذات الانتشار والشيوع والمؤثرة في تكوين الرأي العام.
وحول دور الإعلام في تكوين الرأي العام في الولايات المتحدة يقتبس إدوارد سعيد ملاحظات مطوله من س. رايت ميلز (C.Wright mills) نعيدها هنا- يشرح فيها حقيقة ما يسميه الجهاز الثقافي الذي يقوم بدور الوسيط بين المواطن الأمريكي وعالم الناس و الأشياء من حوله بصورة شبه كاملة وبهذا المعنى فكل " حقيقة " هي اليوم "حقيقة بالوساطة Mediated Reality" يحدث هذا في عالم تتقلص فيه بسرعة مساحة التجربة المباشرة.
" أن القاعدة الأولى لفهم الوضع الإنساني هي إدراك أن الناس يعيشون في عوالم غير أصيلة. فما يعونه يفوق كثيراً ما اختبروه شخصياً، وخبرتهم الشخصية هي، دائماً، خبرة غير مباشرة. وتقرر المعاني التي تلقوها من غيرهم نوعية الحياة التي يعيشون. وكلنا نعيش في عالم مفعم بمثل هذه المعاني. ولا يواجه أي شخص بمفرده عالماً من الحقائق الصلدة. ولا وجود لمثل هذا العالم. وأقرب موضع من مثل هذا العالم هو حالة الطفولة وحالة الجنون: وحينها، في خضم حوادث مرعبة لا معنى لها وفوضى رهيبة، يصاب الناس بالقلق من الانعدام شبه الكلي اللاستقرار. غير أنهم لا يختبرون عالماً من الحقائق الصلدة في حياتهم اليومية، بل إن خبرتهم تنتقيها معان منمطة وتشكلها تفسيرات جاهزة. وتزودهم جمهرة حاشدة من شهود العيان الذين لم يلتقوهم ولن يلتقوهم، بتصوراتهم عن العالم وعن أنفسهم. ومع ذلك فهذه التصورات- التي يوفرها الغرباء والأموات- تشكل بالنسبة لكل شخص المنطلق الجوهري لحياته حياة إنسانية.
إن وعي الناس لا يقرر وجودهم المادي، كما لا يقرر وجودهم المادي وعيهم. وتقوم بين الوعي والوجود المعاني والتشكيلات والاتصالات التي ورثناها عن غيرنا- في اللغة الإنسانية أولاً، وفي التمكن من الرموز من بعد. وتؤثر هذه التفسيرات التي نتلقاها ونقولها تأثيراً حاسماً في وعي الناس لوجودهم. وهي توفر الأدلة لما يراه الناس ولكيفية استجابتهم لما يرون، وكيفية شعورهم نحوه، وكيفية استجابتهم لهذا الشعور. والرموز تركز الخبرة، والمعاني تنظم المعرفة، مما يوجه الإدراك الحسي السطحي للحظة لا تقل عن طموحات عمر بأكمله.
ومن المؤكد أن كل إنسان يلاحظ الطبيعة والأحداث الاجتماعية وذاته: غير أنه لا يلاحظ، ولم يسبق له أن لاحظ، معظم ما يعتبره حقائق تختص بالطبيعة و بالمجتمع وبذاته. وكل إنسان يفسر ما يلاحظه-بالإضافة إلى الكثير مما لم يلاحظه: لكن أطر التفسير التي يعتمدها ليست أطره، فهو لم يصغها شخصياً بل إنه لم يتفحصها بنفسه. ويتحدث كل إنسان عن الملاحظات والتفسيرات مع الآخرين: غير أن الأغلب أن تكون الأطر التي يعتمدها في تقاريره هي من صياغة وتصور أناس غيره تبناها هو ويعتمدها على أنها له. ويتزايد اعتماد كل إنسان، في تقرير معظم ما يعتبره حقيقة صلدة وتفسيراً صائباً وعروضاً ملائمة، على مواقع المراقبة ومراكز التفسير ومستودعات العرض، وهي كلها تتشكل في المجتمع المعاصر بفعل ما سأسميه بالجهاز الثقافي".
وتعقيباً على ملاحظات س. رايت ميلز يقوم ادوراد سعيد بتأكيد أن الجهاز الثقافي ما هو إلا وسائل الإعلام في الولايات المتحدة و أوربا وما تقوم به من عمل في صياغة السياق العام وما يتضمنه من قيم.
" أما فرع الجهاز الثقافي الذي زود ويزود معظم الأمريكيين ( وينطبق ذلك على الأوربيين بصورة عامة) بما يتلقونه عن الإسلام فيشتمل، في معظم الأحيان، على الشبكات الإذاعية والتلفزيونية، والصحف اليومية، والمجلات الإخبارية الواسعة الانتشار. وتلعب الأفلام دوراً، دون شك، حتى لو اقتصر ذلك الدور على ما نستمده من إحساس بصري بالتاريخ والبلاد البعيدة الذي يتم عن طريق السينما، في غالب الأحيان، يمكن القول إن هذا التركيز القوي لوسائل الإعلام مجتمعة، يشكل نواة مشتركة من التفسيرات توفر صورة معينة للإسلام وتعكس، دون شك، الاهتمام و المصالح المسيطرة في المجتمع الذي تخدمه هذه الوسائل. ويرافق هذه الصورة، وهي ليست مجرد صورة بل هي أيضاً مجموعة من الأحاسيس توصلها الصورة حول الصورة، ما يمكن أن ندعوه بالسياق العام، وأعني بالسياق الخلفية أو الإطار لهذه الصورة، وموقعها بالنسبة للواقع الفعلي، وما تتضمنه من قيم.
الخبراء والاختصاصيين:
اختار الباحث الأمريكي مايكل شودسون (أستاذ تاريخ سوسيولوجيا الإعلام) اختار العام 1833 بداية لانطلاق الموضوعية الصحفية Journalistic Objectivity وذلك بميلاد " صحافة القرش (Penny Press)" والتي أسميت كذلك حين انخفض سعر الصحيفة إلى "قرش" - دخلت هذه الصحافة سوق المطبوعات وتغلبت على منافسيها بالتزامها خطاً من الحياد "والموضوعية" لأسباب اقتصادية بحتة منها جذب المعلنين من كل صوب والوصول إلى أكبر عدد من القراء . وبالتزام الصحفيين الموضوعية والحياد اكتسبت صحفهم "المصداقية" عند القراء وأصحاب الإعلانات وصار الصحفي يرى نفسه مثل القاضي الذي يستمع لوجهات نظر مختلفة ويرفض الانحياز لأي جانب. ولكن مع تطور المجتمع الأمريكي ودخوله "المرحلة الصناعية" و "ما بعد المرحلة الصناعية" ولدت شريحة عريضة من الخبراء والاختصاصيين والاستشاريين ومنهم الخبراء الذين اعتمد عليهم الإعلام في تفسير وشرح مغزى الأحداث و دلالالتها الذين كونوا مرجعيه تقنية للعصر الصناعي وما بعد الصناعي. وهكذا فإن الانحياز Partisanship الذي أبعد من "الباب" في منتصف القرن التاسع عشر، عاد قوياً في القرن العشرين من خلال "نافذة "الخبراء.
ومن هذه الناحية فإن النقد الإعلامي عند إدوارد سعيد كان نافذاً في تركيزه على دراسة دور الخبراء في إنشاء الخطاب الإعلامي عن الإسلام والشرق. وهذا جانب يغيب عن وعي كثير من الباحثين في الإعلام الأمريكي إذ تعميهم حرفية وموضوعية الصحفيين الأمريكيين عن رؤية الأيدلوجية التي تتسرب من خلال الخبراء والاختصاصيين.
ولعل تجربة كتاب "الاستشراق" قد أتاحت لإدوارد سعيد تطوير أدوات فعالة ودقيقة في ملاحظة وتفكيك الإنشاء عن الإسلام الذي يشكله الخبراء "ومجتمعات التفسير" في وسائل الإعلام الأمريكية.
ويزيد هذا الأمر أهمية إذا أدركنا أن كثير من الدراسات اثبت أن 80% من الخبراء والاختصاصيين الذين يعلقون على الأحداث ويفسرونها - ينتسبون الآن أو كانوا على عهد قريب أعضاء في السلطة التنفيذية أو إلى الشركات الرأسمالية.
الإعلام والسلطة في الولايات المتحدة:
على مستوى النظرية وعند كثير من الليبراليين و المحافظين تتحدد وظيفة الإعلام في الولايات المتحدة في قيامه بدور المراقب اليقظ لكشف أي استخدام غير مشروع للسلطة بواسطة الجهاز التنفيذي ( الحكومة ) والتشريعي ( الكونغرس ) و القضائي. وهذا الدور يعرف عادة بدور " كلب الحراسة" "watchdog" إضافة لذلك هناك التعديل الأول للدستور The First Ammendment والذي يحمي بتوسع حرية الصحافة من تعديات الجهاز التنفيذي والتشريعي والقضائي ويعد هذا التعديل من أهم الأسلحة الأيدلوجية التي توظفها الدولة الأمريكية داخلياً وخارجياً. ومن ناحية أخرى قام عديد من الباحثين بتقديم دراسات تدحض هذه القناعات وتقدم بدلاً عنها تصوراً مخالفاً تماماً لعلاقة الإعلام بالسلطة. ومن أهم هذه الاتجاهات المخالفة إتجاه يصف علاقة الإعلام بالسلطة في إطار "الاستخدام "Instrumentalism" أي أن الإعلام ما هو إلا أداة ووسيلة تستخدمها السلطة في إحكام سيطرتها ونشر قناعاتها وسياستها وسط الجمهور. ويعد نعوم تشو مسكي - الذي يصف النظام الإعلامي بنظام الدعاية- أهم رواد هذا الاتجاه.
أما إدوارد سعيد - و استناداً على قراءة في نقده الإعلامي - فيمكن أن تصنيفه ضمن إتجاه يؤمن بمقوله" الاستقلال النسبي Relative Autonomy لوسائل الإعلام وهذه المقولة تمثل اتجاهاً يبـني تحليله على خلفية نظريه "بنبوية ماركسية" تعالج بنية السلطة في الدولة الليبرالية الرأسمالية الشـراكية
Coroprate Capitlist state Liberal وهذا الاتجاه يرفض مقوله أن الإعلام أداة في يد السلطة كما يرفض نموذج الدعاية أو البروبقاندا Propogalda وصفاً للجهاز الإعلامي.
ويمضي هذا الاتجاه ابعد من ذلك إذ يرى "استقلالية نسبية" لجهاز الحكومة التنفيذي عن قاعدته الرأسمالية. تبنى أدوراد سعيد لهذا الاتجاه جعله يرصد أمثله للتغطية الإعلامية " البديلة" للإسلام. يقول ادوارد سعيد في " تغطية الإسلام" { من الضروري أن نشير أن هناك قدراً كبيراً من التنوع المنتشر، حتى في الصحف والإذاعة والتلفزيون، كالفروقات بين الخط الذي تلتزمه افتتاحية و أخرى، وما تطرحه الصفحات الأساسية من مواقف مختلفة، أو بين الصور البديلة والثقافية النقيضة وبين الصور التقليدية. فنحن، بالاختصار، لا نعيش تحت رحمة جهاز مركزي للدعاية,}
ويمضي أدوارد سعيد مستطرداً في هذا الاتجاه
{ ويجدر بنا في هذا المقام إيراد بعض التوضيحات. فلا يمكن أن نقول إن الدول الصناعية الغربية هي دول قمعية تحكمها الدعاية، لأنها ليست كذلك، بالطبع. ففي الولايات المتحدة, مثلاً يمكن طرح أي رأي كائناً ما كان، وتسود المواطنين ووسائل الإعلام قابلية لا مثيل لها لتقبل وجهات النظر الجديدة غير التقليدية أو غير الشائعة التدوال. أضف إلى ذلك أن مجرد التنوع الضخم للصحف والمجلات و البرامج التلفزيونية والإذاعية المتوفرة، ناهيك عن الكتب والكتيبات، يكاد يعجزنا عن الوصف والحصر. فكيف نستطيع أن نقول، إذن، إن ذلك كله يعبر عن إتجاه عام واحد، ونحن ملتزمون بالعدالة والدقة؟}
وقد يظن القارئ أن هذا إقرار باستقلالية وموضوعية تامة للإعلام الأمريكي، ولكن يرجع سعيد في جدلية متوترة وسريعة إلى تقرير نسبية هذا الاستقلال:
{ ولكنني أعتقد، رغم هذا التنوع المذهل، بوجود ميل كمي ونوعي إلى تحبيذ آراء معينة وتصويرات معينة للواقع ونبذ غيرها}.
موت أميرة ومنهج تحليل النص الأدبي/الإعلامي
لم يكتف ادوراد سعيد بالنقد المفاهيمي العام Macro Level في مجالات " السياق " التمثيل" و " السلطة " وإنما قدم دراسات دقيقة ومفصلة لحالات خاصة Micro Level مثال فيلم " موت أميرة" " مستخدماً منهج تحليل النص الأدبي. وكأحد الدارسين لمجال الإعلام أجد نفسي ملزماً بإثبات تفوقه إدوارد سعيد في إعمال مناهج تحليل النص الأدبي وإسقاطه بكفاءة على النص الإعلامي. ويبدو ذلك جلياً في معالجة إدوارد سعيد لفيلم " موت أميرة " وكثير من النصوص الإعلامية الأخرى.
وأجدني مرة أخرى فرحاً بهذا الانجاز في وقت طغت فيه أساليب التحليل الكمي " العقيمة"- واعني العقيمة حرفياً، إذ أن هذه الأساليب لا تخبرنا بأي شيء لم تكن نعرفه مسبقاً
وهنا أقصد بالتحديد منهج تحليل المضمون- الكمي content Analysis" والذي يتربع وسط أكثر من 80 بالمائة من الدراسات العربية عن الإعلام.
ليس من المعقول أن يظل البحث العلمي في مجال الإعلام متترساً خلف دعاوي تميزه " بالحقائقية Factualism" ناظراً بازدراء لمناهج تحليل النص الأدبي " غير المنضبطة كمياً" أو لأنها تعالج نصاً " خيالياً" وليس " حقائقياً " والكل يعلم أن " حقائقية " الإعلام هي " حقائقية نسبية " إذ يحتوى تكنيك صياغة الأخبار على كل الأدوات المستخدمة في الدراما مثلا والقطعة الخبرية نفسها تسمى " قصة خبرية " "News Story" وعلى كل حال وحتى إن افترضنا أن الإعلام يصور العالم الحقيقي لا يقول عاقل بان " صورة العالم " هي " العالم عينة"
ما الذي تبقى من إدوارد وديع سعيد وأسئلة أخرى صعبه؟
يختلف إدوارد سعيد عن ميشيل فوكو - على الأقل في دراسة التاريخ - أن فوكو رفض باستمرار الاعتراف بأن ما يقوم به من دراسات في التاريخ هي في حقيقتها مداخلات مقصودة في الواقع الحاضر. ومن ناحية أخرى فإن إدوارد سعيد بتجذيره مفهوم "الوجود المتفاعل مع العالم اليومي "Worldliness" وجه قصداً كل أعماله حتى التاريخية منها لمخاطبة قضايا الواقع. ولعله في ذلك يتقاطع مع المفكر الإيراني -الذي احترمه ادوارد سعيد كثيراً- على شريعتي.
هناك أيضاً الإضافة المتميزة في مجال دراسات ما بعد الاستعمار أو الكولونالية - التي جعلت منه بحق مثقفاً عالمياً (إذا تذكرنا أن ثلاثة أرباع البشرية يعيشون في العالم الثالث إضافة إلى كثير من الفئات المهمشة في العالم الأول والثاني).
أيضاً لا ننسى عبوره الرائع ومزاوجته بين مجالات المعرفة في الأدب المقارن ودراسات ما بعد الاستعمار والفلسفة والنقد و التذوق والموسيقى والسياسة ودراسات الشرق الأوسط - كأنه التجسيد الحي " لرجل النهضة Reanassance Man ".
وشجاعته الشخصية، إذ أنه ورغم السرطان في دمه مستحكماً طوال سنينه العشر الأخيرة أنتج إدوارد سعيد الكثير من الأعمال التي تطلبت جهداً جهيداً.
وشجاعته في وجوده الحي في أجهزة الإعلام الأمريكية طوال الثمانينات مصارعاً ومغالباً التحيز والشتائم حيـث أطـلـق علـيه الصـهيونيون والكـتاب الـمحافظون لـقـب " بروفـسير الإرهاب The professor Of Ferror" ولم يقتصر الأمر على الشتائم بل امتد إلى التهديدات الشخصية بالقتل من جماعات الـ J.D.L.
ولا أنسى ونحن طلاب دراسات عليا في الولايات المتحدة أواخر الثمانينات كيف تلقفنا نحن الطلاب العرب والمسلمون كتاب "Covering Islam " تلقفناه كطوق للنجاة في بحر غربة مكانية ومعنوية.
ولكن بعد ذلـك تبقـى تسـاؤلات حـول مـدى الأصالة والـجذرية أو الراديكالية في مشروع إدوارد سعيـد الـذي قـال انه دائـماً ما يجد نفسه في الجانب المعاكس للقوة أو السلطة On the Receiving end of Power.
إدوارد سعيد و"الاستشراق" والتلقي العربي
د. نادر كاظم
مدير تحرير مجلة (أوان)
nader73@batelco.com.bh
يعد إدوارد سعيد واحداً من أهم المنظرين في حقل "الدراسات ما بعد الكولونيالية"، ويقف كتابه المؤثر على نطاق واسع، أي "الاستشراق" 1978، علامة على بداية هذا الحقل في صورته الأكاديمية والتنظيرية، كما يمثل الكتاب، من منظور بعض النقاد، الكتاب الجوهري والمصدري الخطير في نظرية ما بعد الكولونيالية، أي حالة دراسة الخطاب، وهو هنا خطاب الاستشراق، بوصفه شكلاً من أشكال الهيمنة. وهو الكتاب الذي "غيّر الطريقة التي نفكّر بها حول العلاقات الثقافية والسياسية. لم يعد مرتبطاً فقط بدراسة الشرق، لقد أصبح ينظر إليه على أنه مصطلح شامل حول الأسلوب الذي تعامل فيه الثقافات "الأخرى" وتصوّر" . وأطروحة إدوارد سعيد تتلخّص في أن صعود الإمبريالية قد تزامن مع صعود الاستشراق، وهذا التزامن قد شبك بين الحركتين، المعرفية من جهة، والعسكرية السياسية الاقتصادية من جهة أخرى. وهذا التشابك هو الذي حمل إدوارد سعيد على القول بأن هناك جانب مهم من المعرفة لم يصمّم كـ"معرفة خالصة" Pure Knowledge ، فهناك معرفة أريد بها التحكم في الآخرين والسيطرة عليهم وقيادتهم. ويبدو أن هذا الجانب الملوّث من المعرفة هو الذي كان يعني إدوارد سعيد في "الاستشراق"؛ وذلك لأن هذا الضرب من ضروب المعرفة لا يلعب دوراً هاماً وخطيراً في تشويه صورة الآخر المدروس والمعاين فحسب، بل إنه ينقلب، في لحظة من اللحظات التاريخية، إلى أداة من أدوات التحكّم بهذا الآخر، ووسيلة من وسائل تجييش المتخيّل ضده، إنها باختصار أداة من أدوات "المراقبة والمعاقبة" بحسب تعبيرات ميشيل فوكو. وبحسب أطروحة إدوارد سعيد، فإن الاستشراق كان هو "المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق - التعامل معه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه، وبإيجاز، الاستشراق كأسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه" . إنه ببساطة أداة الإخضاع الغربي للمنطقة الجغرافية المعروفة بالشرق.

إن "الاستشراق" هو الكتاب الأول من بين أربعة كتب كُرّست لاستكشاف العلاقة والتفاعلات بين عالم الإسلام، والشرق الأوسط، والشرق، والعالم ما بعد الكولونيالي من جهة، وبين الإمبريالية الأوربية والأمريكية من جهة أخرى. ففي الوقت الذي يركّز فيه "الاستشراق" على فعل الإمبريالية الفرنسية والبريطانية في القرن التاسع عشر، فإن الكتب اللاحقة في هذه الرباعية "مسألة فلسطين" 1979، و"تغطية الإسلام" 1981، و" الثقافة والإمبريالية " 1993، قد انصبّت على الإمبريالية الظاهرة أو المستترة التي تطبع العلاقة بين الصهيونية والفلسطينيين، والولايات المتحدة والعالم الإسلامي، والغرب الحواضري الحديث وأصقاعه الواقعة فيما وراء البحار. وبمجموع هذه الكتب تبوّأ إدوارد سعيد موقعاً محورياً في النظرية ما بعد الكولونيالية، وهو الحقل الذي كثيراً ما يؤرخ له منذ السبعينات بصدور كتاب "الاستشراق" 1978.

بشكل أولي، يمكننا القول مع ليلا جاندي بأن "الاستشراق" يعتبر بمثابة الفهم الموسّع والفريد للإمبريالية/الاستعمار بوصفهما "تياراً ثقافياً وإبستمولوجياً" ترافق مع تصاعد نزعة الفضول والهيمنة والتحكّم في مساحات واسعة من أصقاع العالم البعيدة. فما يريده سعيد في "الاستشراق"، وهو الفريد والجوهري في الكتاب، أن يكشف عن أهمية التشكيلات الثقافية والأنساق الأيديولوجية والمعرفية في صعود حركة الاستعمار والإمبريالية .
إن الجديد في "الاستشراق" هو هذا السعي الحثيث والمحموم من أجل كشف التنكّرات الأيديولوجية والثقافية والمعرفية لعملية مادية ثقيلة كالاستعمار. إنه الكشف عن تعقّد عملية كانت تشخّص ببساطة تحت مقولات اقتصادية أو سياسية. ما حاول "الاستشراق" أن يستكشفه هو أن الإمبريالية والاستعمار ليسا "مجرد فعل بسيط من أفعال التراكم والاكتساب، فكل منهما مدعّم ومعزّز، بل ربما كان أيضاً مفروضاً، من قبل تشكيلات عقائدية مهيبة تشمل مفاهيم فحواها أن بعض البقاع والشعوب تتطلب وتتضرّع أن تخضع تحت السيطرة، إضافة إلى أشكال من المعرفة متواشجة مع السيطرة" . وعلى هذا، فإن الجديد في كتاب "الاستشراق" هو هذا الوعي الكثيف بخطورة التشكيلات الثقافية التي تدعم وتعزّز عملية الهيمنة والسيطرة الماديتين. وبتعبير آخر، يتمثل الجديد في "الاستشراق" في كشفه الجاد عن العلاقة الوثيقة والمتبادلة بين المعرفة الاستعمارية والقوة الاستعمارية.
غير أننا حين نقترب من التلقي العربي لهذا الكتاب سيدهشنا حجم التزييف والقراءات المغلوطة التي تعرّض لها هذا الكتاب. ومما يثير الاستغراب حقاً أن لا يجد هذا الكتاب استقبالاً جيداً في العالم العربي. إن المقارنة بين التلقي العربي لـ"الاستشراق" والتلقيات الأخرى له تكشف عن هشاشة التلقي العربي، وعن ضحالته وبؤسه، وعن انحصاره في الجزئيات التي كانت تزيّف مشروع إدوارد سعيد أكثر مما تقرأه. وهذا النهج في التلقي هو الذي حشر "الاستشراق" في زوايا ضيقة ولا تمت إلى مشروع سعيد بصلة. لقد استقبل الكتاب بوصفه دفاعاً عن الإسلام وهجوماً على الغرب، والبعض كان يجرّم حتى هذا الدفاع والهجوم معاً (انظر حازم صاغية في "ثقافات الخمينية" مثلاً). إن انتقال "الاستشراق" من سياقه الغربي وما بعد الكولونيالي إلى السياق العربي، قد مهّد السبيل لظهور كثير من القراءات الاستعمالية (القراءات الإسلاموية والقومية على وجه الخصوص)، أو القراءات المعيارية (القراءة الماركسية)، وأغلب هذه القراءات كان يتحرّك بانتقائية وتجزيئية، ويتعامل مع الكتاب بغائية لا تحترم كثيراً "قصدية النص" ولا خلفيته الثقافية ما بعد الكولونيالية. وهو ما أدّى إلى تعويم مضمون الكتاب الأصلي إلى الحد الذي ينقلب فيه مؤسس حقل "الدراسات ما بعد الكولونيالية" إلى ما يوحي بأنه "عميل للمخابرات الأمريكية"، أو ينقلب هذا المثقّف العلماني ذي الميول اليسارية وأشرس المعادين للتشرنقات الدينية والقومية، إلى نصير للفكر القومي أو للأصولية الدينية وداعية إلى "خمينية ثقافية تلوح بالأصول والمآلات" . إن هذا التأويل المغلوط بالمعنى السلبي للمفهوم هو الذي كان يتحدث عنه إدوارد سعيد بحسرة وأسى في "الثقافة والإمبريالية" ، و"تعقيبات على الاستشراق" .
إذا استثنينا بعض القراءات العربية التي حاولت أن تتواصل مع الكتاب بقراءة تأويلية أو دفاعية انتصارية، كقراءة مترجم الكتاب كمال أبوديب وفخري صالح وصبحي حديدي وآخرين، فإن المشهد يكاد يخلو لقراءتين تتفرّدان بمساحة التلقي العربي لكتاب "الاستشراق". الأولى هي القراءة "الإسلاموية" و"القومية" التي وجدت في الكتاب سنداً قوياً وبرهاناً من الوزن الثقيل، وبالإمكان استثماره في فضح تجنيات الغرب على الثقافة العربية والإسلامية، وهو ما يفسّر هذا الإعجاب والاحتفاء اللذين حظي بهما كتاب سعيد لدى كل من الاسلامويين والقوميين ممن جوّز لأنفسهم أن يستعملوا ويستخدموا هذا الكتاب بطريقتهم الخاصة التي تخدم أغراضهم ومقاصدهم التي تؤكّد على رفعة الإسلام وعظمته، وتعزّز من تحصين الذات القومية ضد تجنيات الخطاب الاستشراقي والإعلامي الغربيين.
يبدو أن كتاب سعيد قد قدّم للإسلامويين والقوميين تفسيراً موثّراً وجذّاباً ومدعّماً بأدلة وبراهين تضرب في عمق التحويرات والتزييفات الغربية للإسلام والعرب. لقد وجد هؤلاء بغيتهم في "الاستشراق" الذي أثبت لهم بـ"أن الشرق من إنتاج الغرب وخلقه"، بمعنى أن الشرق الذي كان يتعامل معه الغرب لم يكن شرقنا الحقيقي، بل هو شرق متخيّل ومزيّف لا يمت إلينا بصلة. وهذا يوصل إلى نتيجة بأن كل ما كتبه المستشرقون تزييف وباطل وإتباع للظن والتوهم. وبهذا نرمي عن كاهلنا عبء تلك النظرة الدونية التبخيسية التي شكّلها الغرب عنا. كانت فضيلة الكتاب في هذه القراءة هي "توضيح أخطار المستشرقين الخبيثة، وإنقاذ الإسلام من براثنهم" . في دراسة عن "منهج مونتغمري واط في دراسة نبوة محمد (ص)" 1985 وجد جعفر شيخ إدريس أن هذا المستشرق كان يدّعي استخدام منهج علمي في دراسة "نبوة محمد" وقضية "الوحي"، في حين أنه يتبع في دراساته منهجاً آخر، يقوم أساساً على العلمانية والمادية وإتباع الظن وعدم الثقة في علماء المسلمين وعامتهم والتعصّب ضد العرب والمسلمين. ولكي يعزّز المؤلف رؤيته اضطر إلى استحضار "استشراق" إدوارد سعيد؛ ليكون خاتمة القول والكلمة الفصل في تحويرات المستشرقيين وتجنياتهم. فينبغي "أن نتذكر نحن أن هذا الشرق الذي يتحدث عنه واط ورفاقه المستشرقون ليس شيئاً واقعياً يشار إليه بالبنان - وإنما هو - كما قال الدكتور إدوارد سعيد - شيء من نسج خيالهم، ينشأ عليه صغارهم ويشيب عليه الكبار" . وفي دراسة أخرى عن "منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي" استحضر محمد بن عبّود إدوارد سعيد و"الاستشراق" في سياق مناقشته مسألة الموضوعية والتحيّز بالنسبة للمؤرخين المستشرقين. وفي هذا الشأن يرى المؤلف أن هناك عوامل أثّرت في مناهج المستشرقين ومن ثم أثّرت في تصوراتهم للتاريخ الإسلامي. وهذا الرأي يجعل حضور إدوارد سعيد ضربة لازب، وأمر لا مهرب منه؛ فكتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" "هو أحدث وأعمق تحليل للقوى التاريخية التي تقف وراء تطور فكرة الشرق، مقدمة إياها في صورة حديثة، متناقضة مع الشرق الحقيقي، عن طريق بحث تفصيلي لكتابات أصدق المستشرقين تمثيلاً. ونجد أن هذا العمل المهم الذي خطّه قلم عالم مستشرق[؟!]، قد حظي باستحسان عظيم وتعليق كثير في جميع أنحاء العالم، بيد أنه أثار كذلك غضب وسخط مستشرقين بعينهم يمضون في غيّهم متصورين الشرق صورة ثابتة من نتاج خيالهم يقصدون بها المستهلك الغربي" .
ليس ما يلفت في ما سبق من استشهادات هو وصف إدوارد سعيد في دراسة محمد بن عبود بأنه "مستشرق"، بل اللافت أن هذه القراءات لم تستطع استثمار قراءة سعيد للاستشراق في مقاربتها للمنهجيات الاستشراقية، بل بقي "الاستشراق" سلاحاً يشهر في كل مرة ضد الغرب والمستشرقين. إن سعيد يحضر في هذه القراءة حضوراً عرضياً ليؤدي وظيفة محددة له، وهي تعزيز الرؤية التي يتبناه القارئ. فالقارئ يبحث عن أدلة تعزز موقفه من الغرب والاستشراق، وقد وجد بغيته في "الاستشراق" لإدوارد سعيد. ولا يهم بعد ذلك ما اشتمل عليه هذا الكتاب من عمق التحليل والسبر الدؤوب والتقصي المتبحّر، المهم هو أنه أثبت أن "الشرق من اختراع الغرب". إن هذه النتيجة التي انتهت إليها هذه القراءات نتيجة متوقعة، فالقراءة الاستعمالية قراءة برغماتية متجوّزة إلى أبعد الحدود؛ لأن الذي يعنيها هو ما يخدم رؤيتها ويدعم موقفها. ولهذا فإنها تتعامل مع النص بحرية لا تحدها حدود، ولهذا تجد في هذا النوع من القراءات كثيراً من الانتقائية، وكثيراً من الاختزال، وكثيراً من تقطيع أوصال النص، وكثيراً من عزله عن سياقه.
إن هذا التفارق بين "استشراق" إدوارد سعيد وهذا النوع من القراءات في كل من الأهداف والمنطلقات هو الذي جعل هذه القراءات لا تلجأ إلى إدوارد سعيد إلا من أجل خدمة أغراضها وتعزيز مقاصدها. وهذه الوضعية هي التي كانت تدفع بهذه القراءات إلى مزيد من "القراءات المغلوطة"، وإلى مزيد من سوء التأويل. إن التباين بين مشروع إدوارد سعيد وبين القراءات الإسلامية تباين شاسع لدرجة لا يمكن رتقه بسهولة، بل إن قراءة "الاستشراق" على "أنه دفاع عن العرب والإسلام" واحدة من المظاهر الساخرة. فهذه القراءات تصدر في قراءتها للاستشراق والغرب من تصوّر يذهب جهة القطيعة الحادة بين العرب والغرب، أو بين الإسلام والغرب، أو بيننا وبينهم. إننا إذن أمام تشكيلات حضارية متمايزة، بل متعارضة وليس بالإمكان الوصول إلى نقاط التقاء بينهما. في حين أن رؤية سعيد تصدر عن أفق إنساني رحب، جعله من أشرس المهاجمين لمفاهيم "الهوية" و"النقاء" و"الصفاء" و"القومية"، بل إنه ليذهب إلى حد القول بأن "جذور القومية ترتبط كثيراً بجذور العنصرية"، حيث يفكّر الناس بأنهم جزء من جماعة متميزة ومن ثم متفوقة. إننا نعيش، بحسب إدوارد سعيد، في "أقاليم متقاطعة وتواريخ متواشجة" وثقافات هجينة، وبمقدار هجنتها Hybridity يكون ثراؤها.
وإذا قاد هذا التفارق بين منطلقات إدوارد سعيد وبين منطلقات القراءات الإسلاموية والقومية إلى التعامل مع نص سعيد بطريقة برغماتية تقوم على الاختزال والانتقاء، فإن التفارق بين منطلقات سعيد ورؤيته، وبين منطلقات القراءة العربية الماركسية قد قاد إلى عملية معايرة حادة لنص "الاستشراق". إن قراءة كل من صادق جلال العظم في "الاستشراق والاستشراق معكوساً" 1981، وقراءة مهدي عامل في "هل القلب للشرق والعقل للغرب؟ أو ماركس في استشراق إدوارد سعيد" 1985، إنما كانت تعاين الكتاب من منظور أيديولوجي راسخ ومكين ومجروح في الوقت ذاته، وهذه الوضعية تمهّد لقراءة من نوع محدد، قراءة تتكئ على معايرة الكتاب بمقاييس تجدها القراءة بدهية، وتؤهلها لأن تقيس قيمة الكتاب بدرجة انحراف الكتاب عن هذه المعايير أو وفائه لها. كما أن قراءة الكتاب بذات قرائية مجروحة في الصميم، سوف يحكم هذه القراءة بانفعالية متسرّعة، وبتشكيلة عاطفية عدائية. فهذه القراءة لم تكن لترضى عن حشر ماركس في خانة الاستشراق، أو اعتباره هو والاشتراكية، بعبارة فرانز فانون "جزءاً من المغامرة الضخمة للروح الأوربية" الاستعمارية. وقد قادت هذه الوضعية القراءة إلى قراءة مفرطة في اتهاماتها وتجنياتها ومحاكماتها، لدرجة أن يتهم إدوارد سعيد بأنه قد رجع إلى حظيرة الفكر اليميني، وإلى كنف المواقف السياسية العربية اليمينية، أو ارتدّ إلى مواقع المستشرقين الكلاسيكيين .
إن علاقة إدوارد سعيد بالماركسية علاقة متوترة، ومع ذلك فإن نقده لماركس والماركسية في "الاستشراق" نقد عَرَضي ورد في بضع فقرات، إلا أن الاختلاف الحاد والجذري بين أطروحة سعيد في "الاستشراق" وبين الطرح الماركسي بماديته التاريخية، يتمثل في اختلاف الطرحين في المنطلق والمهاد التأسيسي لتفسير تطوّر الظواهر والمؤسسات. فالطرح الماركسي يتأسس على رؤية مادية تاريخية للظواهر والمؤسسات. فالبشر، كما يقول ماركس، يصنعون تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه كما يريدون، بل في ظل ظروف وأوضاع معطاة مباشرة ومتسامية عليهم، وتثقل كاهلهم، وتتمثّل في علاقات الإنتاج المادية التي تشكّل البنية التحتية التي تقوم عليها البنية الفوقية المتمثلة في القانون والسياسة والدين والأدب والوعي الاجتماعي. وعلى الرغم من أن إدوارد سعيد في مشروعه لا يعرض عن هذا الطرح إعراضاً تاماً، إلا أن أولويات مشروعه تفرض عليه أن يقلب هذا النموذج لعلاقة البنية التحتية بالفوقية. فسعيد، كما أشرنا سابقا، يريد أن يتفحّص الكيفية التي حدثت بها العملية الإمبريالية، لكن ليس على مستوى القوانين الاقتصادية والسياسية كما هو مسعى الماركسية، بل على مستوى التشكيلات الأيديولوجية، والتصورات الثقافية التي تمتلكها بعض الشعوب عن نفسها أو عن الشعوب الأخرى.
لقد مثّل هذا الاختلاف الجذري بين المنطلقين تحدياً كبيراً أمام القراءة الماركسية العربية. وهو تحدٍ لم يكن ليقود إلى محاولة التوفيق بين المنطلقين من خلال رؤية تؤكد العلاقة المتبادلة بين المستوى الاقتصادي والسياسي والمؤسساتي للعملية الإمبريالية وبين المستوى الثقافي والأيديولوجي، بل انصرف هم القراءات إلى تعزيز هذا الاختلاف إلى الحد الذي لم يعد ممكناً أي حل وسط بين المنطلقين.
يبدأ صادق جلال العظم قراءته لـ"الاستشراق" بعرض موجز لأطروحة الكتاب الأولية، ثم يعقبه مباشرة بانتقاد مبدئي يتأسس على خيبة أمل فيما كان ينتظره القارئ من كتاب يؤلّف لنقد مؤسسة الاستشراق. كان صادق العظم ينتظر من كتاب سعيد أن يفي بتوقعاته، إلا أن الكتاب قد كسر "أفق انتظاره" الذي ينطوي على رؤية مادية تاريخية لتطور المؤسسات والظواهر. يرى العظم أن سعيد بدأ تحليله للاستشراق بداية سليمة، ثم ثنّى على هذه البداية بتحليل مغلوط ومتراجع. فبداية تحليل سعيد حملت القارئ على أن يستنتج بأن الاستشراق "يشكّل ظاهرة ما كان يمكن أن توجد، بالمعنى الدقيق للعبارة، قبل صعود أوروبا البورجوازية وتثبيت سلطانها وتوسيع حدودها" ، وقد عزّز هذا الاستشراق أن سعيد، كما يقول العظم، يحدد بدايات الاستشراق عند عصر النهضة. غير أن "أفق الانتظار" هذا لم يلبث أن كُسِر، وذلك حين يتخلّى إدوارد سعيد عن كل هذه الوعود. فبدل أن يستخلص النتائج التاريخية والمنطقية المترتبة على هذه الأطروحة استخلاصاً صارماً ودقيقاً ومنتظماً كما يأمل القارئ، نجده "بفضّل اللجوء إلى الصياغات اللغوية البارعة والتوسطات الأدبية اللامعة لتبديد مظاهر الإحراج والتشويش والارتباك الفكرية التي يمكن أن تصيب تحليلاته نتيجة هذا النوع من القصور" . ولا يتمثّل هذا القصور، من هذا المنظور، في خلل في الرؤية والطرح، بل في تخلي إدوارد سعيد السريع عن الاتجاه الذي أوهم به في تفسير نشأة الاستشراق وتطوره، وتمسّكه باتجاه آخر يتعارض مع هذا الاتجاه، ويظهر "عبر إسقاط تاريخي هائل إلى الخلف، إلى هوميروس واسكيلوس ويوريبديس ودانتي، بدلاً من عصر النهضة" الذي كانت تحليلاته الأولى توهم بذلك.
لا يمكن لقارئ ماركسي عتيد كصادق جلال العظم أن يقبل بهذا "الإسقاط التاريخي الهائل" في تأويل ظاهرة حديثة كالاستشراق. ذلك أن هذا الإسقاط يتعارض مع تطور الظاهرة تاريخياً ومادياً وجدلياً من جهة، ومن جهة أخرى يقود إلى إلغاء أثر التاريخ والتطور، بحيث لا يعود الاستشراق، عندئذٍ، وليد ظروف تاريخية أو استجابة لمصالح وحاجات حيوية ناشئة وصاعدة. فالقول بأن الاستشراق هو عملية تشويه وتحقير لصورة الشرق، وأن هذا التشويه قديم قدم الحضارة الغربية والشرقية، يقود، من منظور العظم، إلى نتيجة منطقية بعيدة، وهي القول بـ"أسطورة الطبائع الثابتة" والجوهرية للثقافات وعلاقاتها. وهي الأسطورة التي كان سعيد يريد تدميرها وتفكيكها.
إن خيبة الأمل وكسر "أفق الانتظار" اللذين مني بهما صادق جلال العظم في "استشراق" إدوارد سعيد، قد قاداه إلى إساءة تأويل خطيرة لرؤية إدوارد سعيد ومشروعه. فإدوارد سعيد، ناقد "ميتافيزيقا الاستشراق" كما يسميها العظم، ينتهي إلى التسليم الصامت بـ"أسطورة الطبائع الثابتة"، وإلى تعزيز هذه الأسطورة التي يلخّصها العظم في مقولتيها المطلقتين: الشرق شرق، والغرب غرب، ولكل منهما طبيعته الجوهرية المختلفة وخصائصه المميزة. إن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: كيف انتهى إدوارد سعيد من مقوّض لميتافيزيقا الاستشراق و"أسطورة الطبائع الثابتة" والجوهرانية إلى مسلم بهذه الميتافيزيقا وهذه الأسطورة، بل إنه يعطيهما المصداقية والجدارة؟ ما الذي جعل ناقد الإمبريالية الشرس ينتهي إلى مسلم ومعزّز لأساطيرها وتصوراتها؟
إن هذا التعارض بين ما ينتظره القارئ من النص وبين ما يتحقق في النص، يقود إلى التباس وسوء فهم خطير للنص، وإلى مجموعة من الاختلافات الجذرية بين رؤية القارئ ورؤية المؤلف. فالقارئ يفهم "الاستشراق" بوصفه تلك القوة المؤسساتية الغربية التي كانت أداة التوسّع الأوربي نحو الشرق، في حين أن الذي يعني إدوارد سعيد في هذا السياق هو "الاستشراق" بوصفه نظاماً من المعتقدات والتصورات التي كانت تحرّك الغرب المادي إلى الشرق الواقعي أو المتخيّل. إن "الاستشراق"، بهذا المعنى، أشبه بتشكيلة خطابية تبريرية، من حيث إنها تبّرر وتسوّغ وتشرّع لحركة مادية تجاه الشرق أو رؤية تخيّلية عن الشرق، وتعزيزية من حيث هي أداة لتدعيم هذه الرؤية أو هذه الحركة. وبتعبيرات إدوارد سعيد، فإن الاستشراق يساعد في كشف الكيفية التي حدثت بها عملية الإمبريالية على مستوى القوانين الثقافية والتصورية، لا الاقتصادية والسياسية والعسكرية كما ينتظر صادق جلال العظم من "الاستشراق".
إن النزعة المعيارية واضحة في هذه القراءة؛ فقراءة العظم تنطوي على تفسير لظاهرة الاستعمار والإمبريالية، وهو تفسير تراه القراءة "التفسير الصحيح"، وهو ما كان القارئ ينتظر من كتاب سعيد أن يبني عليه استنتاجاته وتحليلاته، غير أن سعيد يصدمه بخلاف ذلك، بل يقلب له العلاقة رأساً على عقب. وإذا كان تفسير صادق العظم "صحيحاً"، فإن هذا يستتبع بالضرورة أن يكون تفسير إدوارد سعيد خاطئاً. وعلى أساس من هذه المعيارية الصارمة، راح صادق العظم يؤاخذ سعيد على اهتمامه غير المبرّر بكل ما هو خيالي وذهني ومثالي وانفعالي وتصوري. يرى العظم أن سعيد يغالي في هذا الاتجاه حتى ليبدو له وكأن عوالم الخطاب والصور والانطباعات والحساسيات والمتخيلات قد حلّت محل الواقع الخام بفظاظته وكثافته وعينيته، وهو الأمر الذي لا يمكن لماركسي من حجم صادق العظم أن يتقبله أو يستسيغه. إن العامل الاقتصادي يمثّل، من المنظور الماركسي، الأساس التحتي لكل أشكال الوعي الاجتماعي. في حين أن أطروحة سعيد تذهب إلى مغادرة مستوى التفسير الأحادي للتاريخ والظواهر والمؤسسات، وهو ما كان يقرّب بين إدوارد سعيد وبين ماكس فيبر، أكبر ناقد للرؤية الماركسية المادية الأحادية، الذي كان يرى أن التاريخ لا يمكن تفسيره على أساس العامل الاقتصادي وحده، بل يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عامل آخر مهم، وهو ما يسميه فيبر بـ"روح الحياة الاقتصادية". فحيوية القوى المحركة للرأسمالية لا تعود إلى رؤوس الأموال فحسب، بل إلى نمو "روح الرأسمالية". إن "الرغبة في الكسب" و"البحث عن الربح" و"النهم إلى الذهب"، كل ذلك، من منظور فيبر، لا علاقة له بحد ذاته بالرأسمالية. فكل هذا، على الرغم من أهميته، لا ينطوي "أبداً على مقوّمات الرأسمالية ولا حتى على "روحها" التي تمثّلت كظاهرة جماعية في "أخلاق العقلانية البروتستانتية النسكية". وبتدعيم هذا التصور المثالي لماكس فيبر بتصور ميشيل فوكو عن المعرفة والقوة والتشكيلات الخطابية، استطاع إدوارد سعيد أن يقدّم أهم عمل في نقد الاستشراق والاستعمار والإمبريالية في العصر الحديث.
إذا كان التعارض بين القارئ والمؤلف على مستوى الرؤية والتصور قد قاد إلى إنتاج قراءة مغلوطة تعاير النص بمقاييس الخطأ والصواب، فإن موقف إدوارد سعيد من ماركس قد قاد إلى محاكمة النص ومؤلفه محاكمة انفعالية متسرّعة؛ فرمي ماركس بتهمة الاستشراق سابقة لم يقدم عليها، كما يقول صادق العظم، "دارس جاد" قبل إدوارد سعيد. هل معنى هذا أن ما أتى به إدوارد سعيد عن ماركس وتحليله للوجود الإنجليزي الإمبريالي في الهند، يمثّل دراسة جادة بحسب ما يوهم به وصف صادق جلال العظم؟ إن إجابة العظم عن هذا السؤال حاسمة في النفي؛ فهو يعتقد "أن الصورة التي رسمها إدوارد سعيد لوجهات نظر ماركس حول الشرق ولمحاولاته تفسير الصيرورات التاريخية المعقدة التي أخذت مجتمعاته وثقافاته تخضع لها، لا تشكّل أكثر من رسم كاريكاتوري ليس إلا" .
إذا كان صادق جلال العظم قد ختم مقالته عن "الاستشراق والاستشراق معكوساً" برصد نقاط التقاطع العرضية بين "استشراق" إدوارد سعيد وبين "الاستشراق المعكوس" والذي يتمثل في الفكر القومي العربي التقليدي وحركة الإحياء الإسلامي، إذا كان ذلك قد ورد عرضياً ومن دون أن يصرّح المؤلف بعمق الأواصر بين فكر سعيد وهذه الحركات القومية والإسلامية، فإن كاتبين آخرين لم يترددا أبداً في رمي إدوارد سعيد بتهمة "القومية الشوفينية" (مهدي عامل)، أو "الأصولية الإسلاموية الخمينية" (حازم صاغية).
ومن حيث المنطلق، فإن قراءة مهدي عامل لا تختلف كثيراً عن قراءة صادق جلال العظم؛ فكما بدأ هذا الأخير قراءته بـ"أفق انتظار" يتشكّل من التصور "الصحيح" للتاريخ وتطور الظواهر والمؤسسات، كذلك كان مهدي عامل يشدّد، في مفتتح قراءته، على ضرورة "أن يكون الفكر الناظر في التاريخ فكراً مادياً، حتى يتمكن من أن يكون علمياً" . أما الفكر الذي لا ينطلق من هذا التصور المادي والصراعي والتناقضي للتاريخ، فأقل ما يقال عنه "إنه مثالي"، وممثّل هذا الفكر المتهم، من منظور مهدي عامل، هو إدوارد سعيد. وهي ذات التهمة التي سبق لصادق جلال العظم أن وجهها إلى "أيديولوجيا" إدوارد سعيد. وليست هذه التهمة إلا بداية الخيط في سلسلة لا تنتهي من التهم التي كالها مهدي عامل لإدوارد سعيد وفكره. وهو ما جعل هذه القراءة قراءة اتهامية، ومغرقة في نزعتها الاتهامية بصورة أكبر مما وجدت لدى صادق جلال العظم. ففكر إدوارد سعيد هنا مثالي، ويحكمه منطق التماثل لا التناقض كما تفترض القراءة أو "الفكر العلمي الصحيح"، وهو فكر وضعي، ولاعقلاني، وهو يمثّل فكر الطبقة البورجوازية الذي يرفض الاختلاف والتناقض، ويقع في قبضة منطق الفكر الاستشراقي، كما أنه فكر عدمي يضرب بجذوره عند نيتشه وحفيده ميشيل فوكو. وهو فكر بنيوي يقول بأولوية الصراع المعرفي على الصراع الاجتماعي الطبقي، وفكر إمبريالي بحسب المضي بعبارات مهدي عامل إلى أقصى مدى تأويلي تحتمله، فإدوارد سعيد بنيوي، والبنيوية، كما ينقل مهدي عامل عن سارتر، هي آخر "شكل من أشكال الأيديولوجية البرجوازية الإمبريالية" ، وعلى هذا فنقد سعيد البنيوي للاستشراق شكل من أشكال الأيديولوجية البرجوازية الإمبريالية!!. وغريب حقاً هذا التأويل الذي قاد أشرس ناقد للإمبريالية إلى حظيرة "الأيديولوجية الإمبريالية"!!، بعد أن قاده قبل ذلك إلى حظيرة "الفكر القومي" المغلق .
وعبر استراتيجية التأويل ذاتها، كان حازم صاغية يربط فكر سعيد وأطروحته بالفكر الإسلاموي في العصر الحديث. فمعاداة الاستشراق، كما في حالة سعيد مثلاً، أقرب ما تكون، من منظور صاغية، إلى "خمينية ثقافية تلوّح بالأصول والمآلات، وفيما بينها تعتمد على الحذف والتبديد" . ومن هذا المنظور، فإن العداء الأكاديمي للاستشراق يلتقي مع الأصولية الدينية في عدائهما السافر للغرب، وفي نزعتهما النسبية الثقافية المتطرفة. لهذا لم يدهش المؤلف من كون "كتاب الاستشراق لسعيد هو أحد عدة الشغل عند أكثر "المثقفين" الأصوليين حذلقة، ولمّا كانت الخمينية السياسية "ثقافية" أكثر منها سياسي، بدا الأمر أقرب إلى التكامل منه إلى التوازي" . وبمنطق التكامل هذا، أمكن للمؤلف أن يشبك فكر سعيد بالأصولية الدينية، وأن يبحث عن دلالة تتسق مع تأويله هذا في كل الملابسات التي أحاطت بكتاب"الاستشراق"؛ فمن منظور صاغية، هناك دلالة ما ومغزى موضوعي في تزامن صدور هذا الكتاب وبين الثورة الإسلامية في إيران. وعلى هذا، لم يكن مستغرباً، من منظور المؤلف، كما قلنا للتوّ أن يكون هذا الكتاب أحد عدة الشغل الأساسية لدى المثقفين الإسلامويين، كما "لم يكن عديم الدلالة، والحال على ما هي عليه، أن يسقط هذا الكتاب على المنطقة كأنه جزء من الحدث الثوري الإسلامي [أي اندلاع الثورة الإيرانية]، في زمن أيلولة القومية العربية الناصرية والبعثية، إلى التفسّخ. فهو، من ضمن حقله الخاص وجهوده الأكاديمية البارزة، يشاطر ثورة الخميني ردّ كل شيء إلى الغير" . وردّ كل العيوب والأخطاء والمآزق إلى هذا الغير، أي الغرب، إنما يجد مشروعيته من تصوّر مخصوص للمعرفة وعلاقة العارف بموضوع المعرفة. وعلى أساس هذا التأويل المغلوط راح المؤلف يكشف عن التقاطعات بين برنامج "العداء الأكاديمي للاستشراق"، ممثّلاً في إدوارد سعيد، وبين برنامج "الخمينية السياسية". فبناءً على فهم المؤلف، فإن البرنامجين يشتركان في نظرة مفرطة النسبية للمعرفة، بحيث "يصير السوري هو وحده الذي يكتب عن سورية لأنه "أعرف" بها (أي ألصق بها) من غيرها، وكذلك يفعل الإيراني والصيني والفرنسي حيال بلدانهم. فكل امرئ أولى بدراسة بلده" . وهذا في الوقت الذي يذهب فيه سعيد إلى تأكيد تاريخية التجربة الإنسانية ودنيويتها ، والدنيوية، لدى سعيد، هي أساس التأويل وهي الشرط الضروري له؛ فكل ما يقع في الدنيا والتاريخ إنما يكون قابلاً للتأويل، وهو يكتسب هذه القابلية للتأويل من كونه "حدثاً دنيوياً". يتعارض هذا التأويل الدنيوي مع نظريات الجوهرانية التي كان العظم ومهدي عامل وحازم صاغية يأخذونها على كتاب "الاستشراق". إن القول بأن السوري أعرف بسوريته، والإيراني أعرف بإيرانيته وهكذا، إنما يفترض، من حيث الأصل، جوهرانية التجربة السورية والإيرانية وغيرها، أي أنه ينفي عنها سمة "الدنيوية" المتغيّرة. وهذا افتراض في غير محلّه بما أنه افتراض لجوهرانية ما هو، من منظور سعيد، مخلوق تاريخياً، ونتاج للتأويل الدنيوي. وفي الوقت الذي لا ينفي فيه إدوارد سعيد خصوصية أية تجربة إنسانية، سورية أو إيرانية أو يهودية أو نسوية أو غير ذلك، فإنه لا يتهاون في التشديد على المحافظة على قدر من الإحساس بالروح الإنسانية الجمعية. وهذه الروح هي التي جعلت إدوارد سعيد، وهو واحد من أشد المدافعين عن الحقوق الفلسطينية، يبدي تفهّماً، قد لا يكون مقبولاً لا لدى القوميين العرب ولا لدى الإسلاميين، تجاه تجربة المعاناة اليهودية ، ليس بوصفها تجربة حقيقية بالضرورة، بل بوصفها "سردية" راسخة في المتخيّل اليهودي الحديث. كيف يمكن التوفيق إذن بين كل هذا وبين تأويل حازم صاغية لـ"الاستشراق"؟ كيف يمكن أن يقول المؤلف شيئاً، ويفهم القارئ منه شيئاً آخر، بل نقيضاً لما أراد المؤلف قوله؟
لقد أراد إدوارد سعيد من "الاستشراق" شيئاً، وفهم القراء منه شيئاً آخر نقيضاً لما أراده. لقد أراد سعيد، في "الاستشراق"، أن يعرّي ويفضح ذاك الانشباك الآثم بين المعرفة والقوة الإمبريالية، أو بين الحماس والفضول المعرفي من جهة وبين الرغبة في الغزو والهيمنة من جهة أخرى. غير أن حازم صاغية، كما كان صادق جلال العظم ومهدي عامل من قبل، قد وجد فيه ارتماء في أحضان "القومية" و"الأصولية الدينية"، بل إن البعض اعتبر إدوارد سعيد "كبطل من أبطال العروبة" .
لقد ظهر نص "الاستشراق" في سياق أنجلوأمريكي(*)، ثم راح يتفاعل مع سياقات مختلفة تشمل الهند، واليابان، وباكستان، وإيران، والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية وغيرها. وبعد هذه الهجرة والتفاعلات لم يعد في مقدور صاحب النص، إدوارد سعيد، أن يوقف اندياح التأويلات، وانزلاق الدلالات المتفجّرة من داخل نصه. لقد حاول سعيد مرة أن يفعل ذلك ومني بالفشل. فبعد نشر صادق جلال العظم مقالته السابقة، وجّه إدوارد سعيد إليه "رسالة شخصية غاضبة جداً ومليئة بالشتائم غير الأكاديمية، بعثها من جامعة كولومبيا، بعد قراءته لمخطوط النسخة الإنكليزية" من نقد العظم لكتابه. غير أن هذا التدخّل الأبوي من قبل سعيد لحماية قصدية نصه لم يثنِ هذا القارئ عن قراءته، كما لم يمنع ظهور قراءة نارية كقراءة مهدي عامل، ولا قراءة "ملتبسة" ولا تخلو من تحامل كقراءة حازم صاغية. وهو ما يؤكّد أن ما يملكه المؤلف من حقوق نصه أقل بأضعاف مضاعفة مما هو ملك مشاع لأي قارئ، بحيث لم يعد في مقدور المؤلف، أي مؤلف، أن يتدخّل لإيقاف اندياح التأويلات المتحرّكة حول نصه الذي يهاجر من سياق إلى آخر. فالنص ينتج في سياق تاريخي محدد وداخل وضع اجتماعي مخصوص، وهو حين ينتقل إنما ينتقل مقطوعاً من سياقه ووضعه "الأصليين"، وهذا الانتقال هو الذي يجعل النص محكوماً عليه بتقبّل تأويلات عديدة، وهو ما ذهب إليه سعيد في "هجرة النظرية" .
هوامش :
• بيل أشكروفت وبال أهلواليا، إدوارد سعيد: مفارقة الهوية، تر: سهيل نجم، (دمشق/القاهرة: دار الكتاب العربي، ط:1، 2002)، ص195-196.
• إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، تر: كمال أبو ديب، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ط:2، 1984، ص39.
• Leela, Gandhi, Postcolonial Theory: A Critical Introduction, Australia; Allen & Unwin, 1998, in this site: http://www.allen-unwin.com.au/academic/Slpostcol.htm
• انظر توضيح سعيد لذلك في:الثقافة والإمبريالية، تر: كمال أبو ديب، بيروت: دار الآداب، ط:1، 1997، ص 83.
• المرجع السابق، ص80.
• يميّز إمبرتو إيكو في كثير من كتبه، "حدود التأويل" و"القارئ في الحكاية" مثلاً، بين نوعين من القراءة، فهناك قراءة يكون القصد منها استعمال النص واستخدامه لخدمة أغراض ومقاصد في نفس القارئ، وهي "القراءة الاستعمالية"، وهناك قراءة يكون هدف القارئ فيها هو تأويل النص واستثمار كل الإمكانيات لتفعيل النص وإثرائه دلالياً، وهي "القراءة التأويلية". وبالإمكان الاستفادة من هذا التمييز في قراءة أنماط التلقي لـ"الاستشراق" في الثقافة العربية الحديثة. انظر: إمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية: التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية، تر: أنطوان أبو زيد، بيروت/الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط:1، 1996، ص137، 140، 141.
• حازم صاغية، ثقافات الخمينية: موقف من الاستشراق أم حرب على طيف، بيروت: دار الجديد، ط:1، 1995، ص33.
• "الثقافة والإمبريالية"، ص9.
• إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، تر: صبحي حديدي، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط:1، 1996، ص112.
• ومن مظاهر هذا الاحتفاء إقدام "دار الكتاب الإسلامي" بـ"قم" في إيران على طباعة كتاب "الاستشراق" طبعة مصوّرة وغير مرخّصة من الطبعة العربية بترجمة كمال أبو ديب.
• تعقيبات على الاستشراق، ص104.
• جعفر شيخ إدريس، منهج مونتغمري واط في دراسة نبوة محمد (ص)، في: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ط:1، 1986، ج:1، ص240.
• محمد بن عبود، منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي، في: مناهج المستشرقين، مرجع سابق، ج:1، ص363.
• إدوارد سعيد: مفارقة الهوية، ص200.
• انظر: صادق جلال العظم، ذهنية التحريم، لندن: دار رياض الريس، ط:1، 1992، ص59، 69 على التوالي.
• المرجع السابق، ص20.
• المرجع السابق، ص21.
• المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
• ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، تر: محمد علي مقلد، بيروت: مركز الإنماء القومي، د.ت، ص7.
• المرجع السابق، ص42.
• مهدي عامل، ماركس في استشراق إدوارد سعيد، ضمن أعماله الكاملة، بيروت: دار الفارابي، ط:3، 1990، ص98.
• المرجع السابق، ص159.
• المرجع السابق، ص100.
• ثقافات الخمينية، مرجع سابق، ص33.
• المرجع السابق، ص34، هامش رقم (6).
• المرجع السابق، ص67.
• المرجع السابق، ص35.
• الثقافة والإمبريالية، ص100-101.
• يرى إدوارد سعيد في آخر كتاباته وحواراته أن الحل الوارد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني إنما يتأتى، لا بحل يقوم على قيام دولتين، بل بحل يتمثّل في دولة واحدة تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين معاً. وهذا لن يكون إلا بمواجهة كل جماعة لتجربتها في ضوء تجربة الآخر. فليس هناك أمل في السلام إلا إذا اعترفت الجماعة الأقوى، اليهود الإسرائيليون، بذاكرة المعاناة الفلسطينية، كما أن على الطرف الأضعف، الفلسطينيين، أن يواجهوا بجرأة ذاكرة اليهود في المعاناة والنجاة من "الهولوكوست". انظر: إدوارد سعيد: الاختلاق، الذاكرة والمكان، تر: رشاد عبد القادر، مجلة "الآداب الأجنبية"،ع: 104، 2000، ص36. وانظر الحوار الذي أجراه Harvey Blume for "Atlantic Unbound", 22 September 1999.
• تعقيبات على الاستشراق، ص107.
(*) للمقارنة بين التلقي العربي والتلقي الغربي للكتاب، يمكن مراجعة مقالة مصطفى ماروتش، السرد المضاد، في كتاب "الحق يخاطب القوة: إدوارد سعيد وعمل الناقد"، تحرير: بول بوفيه، تر: فاطمة نصر، (القاهرة: سلسلة كتاب سطور، ط:1، 2001)، ص248.
• ذهنية التحريم، مرجع سابق، ص88.
• إدوارد سعيد، هجرة النظرية، ضمن "العالم، والنص، والناقد"، ترجمة: عبد الكريم محفوض، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000، ص289
* * *
إدوارد سعيد وما بعد الكولونيالية
د. منيرة الفاضل
الأستاذ بقسم اللغات الأجنبية
malfadel@arts.uob.bh
أصبح من المتعارف عليه النظر إلى كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد، والذي مضى على طباعته ما يقارب الخمسة وعشرين عاما، على انه المؤسس للدراسات المابعد كولونيالية كحقل معرفي، يعتبر الآن من أكثر القطاعات الأكاديمية ديناميكية وتوسعا في الجامعات لأنجلو- أمريكية. ولهذا ينظر معظم المشتغلين في النظرية المابعد كولونيالية إلى الكتاب كمرجع أساسي ونقطة تحول في مسار الدراسات الثقافية.
يؤكد جوزيف بريستو في كتابه "أبناء الإمبراطورية" (1991)، بأن معظم الأكاديميين في الغرب يعتقدون أن الجدال الفكري المتعلق بالمابعد كولونيالية قد بدأ بأطروحات إدوارد سعيد في هذا المجال. وقد احتفت المفكرة جياتري سبيفاك بكتاب "الاستشراق" مؤكدة على انه المرجع الأساسي الذي من خلاله اكتسب "الهامش" موقعه كحقل معرفي في الاكاديميا الأنجلو- أمريكية. في حين يرى المفكر هومي باهبا بأن "الاستشراق" هو بمثابة حجر الأساس في هذا الحقل. وحتى أولئك النقاد والأكاديميون الذين اتخذوا موقفا عدائيا من سعيد، مثل جون ماكينزي وإعجاز احمد، اعتبروا أن كتاب "الاستشراق" نص يحمل في أحشاءه بذور لابد من إقصاء تأثيرها الواسع، إذا ما كان لهم أن يقدموا رؤية تحليلية مغايرة للعلاقات القائمة بين الثقافة والكولونيالية الجديدة.
أن تأثير المفكر والكاتب إدوارد سعيد يبدو جليا في العديد من الحقول المعرفية، يقارن بقلة من النقاد المعاصرين في الدراسات الثقافية. فاهتماماته شملت الأدب المقارن، الانثروبولوجيا، الاجتماع، الدراسات الأثنية، العلوم السياسية، النقد الموسيقي، بالإضافة إلى الأدب الانجليزي. وقد يكون هذا المسار الثقافي المتنوع هو السمة المميزة التي طبعت نتاجه الواسع على مدار سنوات عديدة.
تأتي أهمية كتابات إدوارد سعيد في تأثره وتناوله لمناهج نقدية مستمدة من النظريات الثقافية الأوروبية المعاصرة وإدخالها إلى عالم الأكاديما الأنجلو-أمريكي في السبعينات. فقد أستطاع كتابه "الاستشراق" أن يطرح أنموذجا يعتبر الأول من نوعه في تطبيقه المعزز لهذه الأساليب التحليلية على التقاليد النصية والتاريخ الثقافي الأنجلوفوني. بالأخص استطاع كتاب "الاستشراق" أن يطوع بعض عناصر هذه النظرية الجديدة لدراسة الروابط بين الثقافة الغربية والإمبريالية، وبشكل أساسي من أجل أن يبرهن بأن كل الأنظمة الثقافية الغربية مرتبطة ارتباطا وثيقا بسياسات ومنظورات واستراتيجيات القوة.
يمثل كتاب الاستشراق المرحلة التأسيسية في النظرية المابعد كولوينالية. فهو بدل من أن ينشغل بالحالة المتضاربة لآثار مرحلة الكولونيالية أو بتاريخ ودوافع المقاومة ضد الكولونيالية، يوجه اهتمامه إلى الحالة الاستطرادية في إنتاج نصوص رديفة لمعاني الكلونيالية وبالتالي متمازجة مع الهيمنة الكولونيالية. قد يتمثل الانجاز الأساسي لكتاب الاستشراق في طرحه لرؤية متفردة للإمبريالية/الكولونيالية بوصفها سلوك معرفي وثقافي مصاحب للهيمنة والسيطرة على المقاطعات والأراضي البعيدة. فكتاب الاستشراق ينحو إلى كشف الأقنعة الايدولوجية للامبريالية، من خلال تأكيده على العلاقة المتبادلة بين المعرفة الكولونيالية من جهة، والسلطة الكولونيالية من جهة أخرى. وفيما يرتكز كتاب الاستشراق بشكل أساسي على علاقة الغرب بالعالم الإسلامي والشرق الأوسط، إلا انه يقدم تنوعا في تحليلاته تطال وتحتوي العالم الشرقي وفي أحيان تتجاوزه إلى العالم الامبريالي ككل.
يعتمد إدوارد سعيد في طرحه هذا على مصدرين أساسيين هما فوكو وغرامشي. ويستمد سعيد من فوكو منهجه الذي يربط كل أشكال المعرفة وكل أساليب التمثيل الثقافي للآخر بممارسات السلطة، والقائل بأن الخطاب - الوسيط الذي من خلاله تتشكل السلطة وتمارس - هو الذي يخلق أيضا الموضوعات التي تتحدد على أساسها معرفته، "إن إنتاج الخطاب يتم من خلال التحكم، الانتقاء، التنظيم ومن ثم إعادة توزيعه عن طريق عدد من الإجراءات التي تكون مهمتها إبعاد الخطر، أو الفوز بالسيادة على الأحداث العارضة". إن الخطاب كما يشير العديد من المحللين هو عبارة عن أنظمة معرفية تحدد وتتحكم بطرق وأساليب التمثيل في أي مجتمع. وتأتي أهمية غرامشي في هذا المضمار في طرحه لمفهوم ديناميكية الهيمنة، وربطها بالهيمنة الثقافية التي أعطت الاستشراق القوة التي يتحدث عنها إدوارد سعيد في كتابه.
تطرح ليلا غاندي في كتابها "النظرية المابعد كولونيالية" (1998) إن كتاب الاستشراق هو الأول في ثلاثية كتبت لكشف العلاقة التاريخية الغير متوازنة بين العالم الإسلامي، الشرق الأوسط، و"المشرق" من جهة، والامبريالية الأوروبية والأمريكية من جهة أخرى. فكتاب الاستشراق يعتمد في تحليله على تاريخ الامبريالية الفرنسية والانجليزية في القرن التاسع عشر، على حين يتناول كتابي "مسألة فلسطين" (1979) و "حجب الإسلام" (1981) الامبريالية المتوارية المحركة للعلاقات بين الصهيونية وفلسطين وبين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي.
قد يكون هذا التأكيد الملح على العلاقة بين التمثيل الغربي والمعرفة من جهة، والقوة السياسية والمادية للغرب من جهة أخرى، كما يطرح بارت-مور جلبرت في كتابه "النظرية المابعد كولونيالية" (1997)، هو الذي أعطى الدفعة الحاسمة التي قدمها كتاب "الاستشراق" لمراجعة وإعادة كتابة الأساليب والمناهج النقدية المتعارف عليها وطرق تناول ودراسة أدب الإمبراطورية والآداب الجديدة التي بدأت تظهر إلى حيز الوجود من مناطق المستعمرات السابقة، إلى ما أصبح يسمى اليوم بالدراسات المابعد كولونيالية.
يعتبر إدوارد سعيد من أوائل من حاول الإشارة إلى الروابط الكامنة في قضايا العنصرية، والإمبراطورية والعرقية في ذات النظرية الثقافية الأوروبية مشيرا بهذا إلى اشتراكها وتواطئها في أساليب فكرية ثقافية نوعية تذهب أحيانا إلى المركزية العرقية. ومن بين أهم الأمور التي أتى بها كتاب الاستشراق أبان ظهوره، هو الإصرار على مسائلة المنتج السياسي والمادي للمؤسسات الأكاديمية والعلمية والثقافية الغربية والنظر بجدية في نوعية العلاقة القائمة بين هذه المؤسسات والعالم الخارجي الغير أوروبي. فإدوارد سعيد يرفض الفهم الليبرالي التقليدي للإنسانيات كمفهوم نشأ حول السعي وراء ما يسمى بالمعرفة "المجردة". وعلى العكس يرى سعيد أن الممارسات متورطة بشكل كبير في عمليات وتكنولوجيا القوة، لحقيقة بسيطة وهي أن كل الباحثين والمفكرين ينتمون أو ينتسبون إلى مؤسسات تاريخية وثقافية معينة هي بدورها محكومة في النهاية بأيدولوجيا مهيمنة وبتبعات سياسية يفرضها واقع المجتمع الذي يتحركون من خلاله. ولهذا يطرح سعيد بأن الأفكار والثقافات والتاريخ لا يمكن أن تدرس بجدية دون الانتباه إلى دراسة محرك القوة أو بتحديد أدق تراتبات السلطة أيضا. فمن وجهة نظر سعيد يعمل الاستشراق في خدمة السيطرة الغربية على الشرق وذلك بإعادة إنتاج الشرق في صورة "الآخر" الدوني والأقل شأنا، وهي مناورة حاذقة تدعم وتساهم في تشكيل صورة للغرب كحضارة متفوقة. وهي تفعل ذلك عن طريق خلق هويات جوهرية للشرق والغرب تقوم على نظام من التمثيل الثنائي، الأنا والآخر، يهدف بدوره إلى خلق اختلاف صارم بين الجنس الأوروبي والأجناس الأخرى من العالم. بالنتيجة يتم إنتاج الشرق في خطاب الاستشراق بأشكال متعددة غالبا ما يكون فيها: حسيّ، أنثوي، مستبد، إرهابي، غير عقلاني ومتخلف. في مقابل ذلك، نجد تمثيلات الغرب على انه ذكوري، ديموقراطي، عقلاني، أخلاقي وتقدمي. وهذه الصور النمطية لا تعتبر تشويها لصورة الشرق فقط بل تطرح تمثيلا خاطئا للغرب بتعتيم التوتر القائم آنذاك خاصة داخل المجتمع الانجليزي فيما يتعلق بالتفرقة الطبقية والعرقية والجنسية.
بالإضافة فأن هذه الصور النمطية كما يطرح سعيد تؤكد على أهمية السيطرة الكولونيالية كونها تشير وبشكل دائم إلى الموضع الفوقي للغرب ودونية الشرق، لأنها تقدم تمثيلا لا يتغير عن شعب مستضعف يهيمن عليه شعب آخر يدّعي معرفته أكثر من معرفته هو لذاته. والسؤال الأهم هنا بالنسبة لإدوارد سعيد لا يتعلق فيما إذا كانت هذه التمثيلات تقدم تعاطفا مع الثقافة الشرقية أم لا، وإنما يتعلق بكون كل الخطابات الغربية عن الشرق موجهة بشكلها النهائي نحو الهيمنة على الشرق بأراضيه وشعبه. فسعيد يؤمن بأن البحث عن المعرفة في الميدان الكولونيالي لا يمكن أن يكون نزيها، أولا: كون العلاقة القائمة بين الثقافات هي علاقة غير متكافئة، وثانيا: لأن هذه المعرفة سواء تناولت اللغة، العادات، أو الأديان لهذه الشعوب، فأنها دائما ما تستخدم لمصلحة الإدارة الكولونيالية.
يجدر بالذكر هنا أن نظام التنميط لا يعمل دائما أو بالضرورة على تقديم الشرق بهذه الصورة السلبية الغير حقيقية. فالشرق أيضا وفي أحيان عديدة، كما يذكر سعيد، يحتفي به لروحانيته، لاستمراره واستقراره. ولكن بوصف هذه الخاصية الأخيرة وطرحها بإفراط تكون الرؤية المحفورة في هذه الأفكار ذاتها مشوهة كما الصورة السلبية ومنتجة بذات الحكم القيمي، والذي هو قبل كل شيء تصور أفكار معينة وكأنها حقيقة موضوعية ومن ثم إسقاطها على الآخر.
لقد كان كتاب الاستشراق من الجدة والأصالة وقت ظهوره بحيث استغرق الأمر سنوات قبل أن تبدأ الدراسات النقدية حوله في الثمانينات، وقد كان لبعض هذه الدراسات النقدية الأثر الكبير، وشكلت دافعا لمراجعة إدوارد سعيد لعدد من المفاهيم طرحها في مقالته "إعادة نظر في كتاب الاستشراق" نشرت بادئ الأمر في سلسلة أوراق مؤتمر Europe and its Others في أسكس (1984) ومن ثم تضمنتها الطبعة المعدلة من كتاب الاستشراق.
في "إعادة نظر في كتاب الاستشراق" (1985)، و"الثقافة والامبريالية" (1993) يبتعد سعيد في تحليله النظري عن مفاهيم فوكو التي اجتهد في تطويرها في كتابه "الاستشراق". وفيما يواصل كتاب "الثقافة والامبريالية" مرجعيته إلى غرامشي، إلا أن الجدل القائم على مفهوم الهيمنة المطروح في الاستشراق صار يلعب دورا أقل أهمية.
من هذا المنطلق يمكن النظر إلى كتاب "الثقافة والإمبريالية" على انه امتداد وإعادة رؤية في العديد من الأفكار والأطروحات التي تم تناولها بإسهاب في كتاب "الاستشراق". فمن جهة حاول الكتاب أن يفتح فضاء أوسع للجدل الخاص بالعلاقات بين الثقافة وتاريخ الإمبريالية، وذلك بتناول العديد من المناطق الجغرافية والأشكال الثقافية والتركيز على تطورات المرحلة المعاصرة. فمنذ كتابه "العالم، النص والناقد" تخلى إدوارد سعيد عن تقديم أية مفاهيم أو بنى شمولية كتلك التي نجدها في كتابه "الاستشراق" ليقدم بدلا من ذلك ويؤكد على المقالة كأفضل أداة بحث لطبيعة الأسئلة التي مازال منشغلا بها، ولهذا يمكن أن يقرأ كتاب "الثقافة والامبريالية" كسلسلة من المقالات أو الدراسات المتصلة أكثر منه كأطروحة متكاملة. ومن أهم الأمور التي عمل سعيد على تقصي أبعادها في هذا الكتاب هو كيفية تشكيل الأمم معرفيا عن طريق السرديات، مشيرا بهذا إلى مقولة المفكر هومي باهبا في كتابه Nation and Narration "بأن الأمم ذاتها هي السرديات"، كما ينظر سعيد في كيفية تضافر الخطاب الروائي مع المشروع الإمبريالي في إنتاج أشكال معرفية وتمثيلات نمطية عن الآخر، وكيف لعبت الرواية الأوروبية دورا بالغ الأهمية في المساعدة على صهر المواقف الإمبريالية الغربية تجاه دول العالم.
بالإضافة سنجد بأن اختلاف إدوارد سعيد المتزايد مع أطروحات فوكو الذي بدأ في كتاب "العالم، النص والناقد" يبدو جليا وأكثر وضوحا في كتابه "الثقافة والامبريالية"، لسببين أولهما يتعلق بنظرة فوكو المتشائمة والحتمية تجاه ممارسات السلطة التي أصبحت تناقض الإيمان المتزايد عند إدوارد سعيد بالحاجة إلى تجاوز العلاقات الغير متكافئة والمتضادة بين ثقافات العالم الغربي والغير غربي التي شخصت الحقبة الكولونيالية. والسبب الثاني يتعلق بطرح سعيد بأنه عندما يصر فوكو على انتساب النص للعالم، فأنه بهذا يهيمن وبشكل غير قانوني على أشكال مختلفة من الخطاب وبذلك ينزع النص من عناصره المحكمة والخفية. من ناحية أخرى نشهد تحول أساسي في رؤية سعيد في "الثقافة والإمبريالية" فيما يخص نهج المقاومة للهيمنة الخارجية، لم تكن موجودة في كتابه "الاستشراق"، حيث يعني في "الثقافة والامبريالية" بتاريخ الانسحاب الكولونيالي في المرحلة المعاصرة وعلاقة الكولونيالية بمفهوم الذاكرة والجغرافيا، ومع ذلك يبقى حذرا تجاه الخطابات القومية والتي في رأي سعيد غالبا ما تنتهي إلى تبني ذات الرؤية الثنائية، التي لدي المستعمر.
فكتاب الثقافة والامبريالية يقدم اهتماما خاصا بموضوع المقاومة، حيث يتناول تاريخ حركات التحرر في الحقبة الحديثة، كما يتناول وقائع عدد من الحركات النضالية في تحليله للخطاب القومي. ومع ذلك يرى سعيد بأن ثقافة المقاومة تصطدم بحدودها النظرية والسياسية في العوائق الشوفينية والسلطوية للدولة الخارجة من الاحتلال، حيث تعيد هذه الدول ممارسة التقسيم الكولونيالي للوعي العرقي. فبالتركيز على العدائية للغرب ينحرف الاهتمام عن الارثوذكسيات الداخلية والممارسات الغير عادلة. بمعنى آخر انه لا يمكن للقومية أن تصل إلى تأليب الوعي الثقافي ضد الكولونيالية ما لم تمارس "النقد الذاتي"، ومالم تثبت بأنها قادرة على توجيه الاهتمام إلى "الحقوق المنتهكة لكل الطبقات المهضومة في مجتمعها". بهذا التدخل المعرفي، يلح إدوارد سعيد بأن المابعد كولونيالية معنية بالاهتمام بكل حركات التحرر في العالم - بما في ذلك الحركات النسوية - التي استطاعت أن تقطع بقوة حالة الانبهار بنجاحات القومية في التحرر من الاحتلال - مشيرة إلى طوق الهيمنة الذي تعاني منه المرأة، حالة الاحتلال الداخلية وضرورة مواجهتها في هذه المجتمعات.
يمكن أن يفهم هذا التغيير في الأسلوب والمنهج والثيمات التي تم التركيز عليها في كتاب "الثقافة والامبريالية"، على أنه تغيير جذري في المنظورات السياسية لإدوارد سعيد. فالرؤية المهيمنة في كتاب "الاستشراق" لمستقبل العالم تقوم على أن العلاقات بين الغرب والدول الأخرى ستظل متسمة بالانقسامات والنزاعات كنتيجة حتمية وكردود فعل للعنف الذي تولد من التاريخ الكولونيالي. أما في كتابه "الثقافة والامبريالية"، يرى سعيد بأن تاريخ وثقافات واقتصاد الدول المهيمنة أو التابعة سابقا أصبح وبشكل متزايد متداخلا ومعتمدا على بعضه البعض. وقد يكون الافتراض الأكثر راديكالية في هذا الكتاب هو أن العالم المعاصر اليوم صار يقترب من مفهوم "الثقافة المشتركة" المتجذرة في التجربة الكولونيالية والامبريالية التي تتشاطرها معظم دول العالم. من أجل توضيح ذلك يطرح سعيد بأننا بحاجة إلى نموذج جديد في الدراسات الإنسانية، يسميه "الطباقية"، وهو منهج متنوع ومتحرك على أكثر من مستوى فكري وثقافي، يهدف إلى مجابهة الرؤية الثنائية في التفكير الغربي كما بينها في كتابه "الاستشراق". هذا النموذج الجديد يتحاشى أي معرفة تقوم على التخصص والانفصال، ويعتمد في المقابل على مجموعة من الحقول المعرفية من بينها اللسانيات، النسوية، ما بعد البنيوية والماركسية إلى جانب عدد من المناهج التقليدية في الدراسات الإنسانية الأوروبية. بالنسبة لإدوارد سعيد تكمن قيمة "الطباقية" كمنهج في أنها تتخطى الحدود المتعارف عليها والتقسيم الذي وصل إلينا في الحقول المعرفية، وبهذا نستطيع أن نقرأ الثقافة مع السياسة مع التاريخ كفضاءات متصلة بعضها.
ولا يخفي سعيد اهتمامه وتحيزه لمثقفي دول "العالم الثالث" الذين هاجروا أو تم نفيهم إلى المدن الكبرى، المسار الذي يطلق عليه "الرحلة إلى الداخل". أن القيمة التي يضفيها سعيد على هؤلاء النقاد تقوم على افتراضين. الأول، هو الوعي الرافض والمعارض عند هؤلاء الأشخاص، كما يتبدى في طريقة تناولهم للخطابات الثقافية السائدة وإعادة كتابتها في خطاب مضاد للغرب يهدف إلى تفكيك محاولاته في السيادة على المناطق التي قدم منها هؤلاء النقاد. بالإضافة فأنه بفضل "عبور الحدود" يصبح الناقد المابعد كولونيالي الذي فقد موطنه أكثر قدرة على التحرر من العوائق التي قد يقع في شركها الناقد القومي في دول العالم الثالث. ويشير سعيد هنا إلى تجربته الشخصية، فهو يرى ذاته متنقلة بين جبهتين، وهو في محاولة دائمة للتوفيق بينهما.
من الواضح بأن سعيد يقدم إلينا نهجا في النقد الثقافي يعكس الهجين الناتج عن تاريخ متعدد ومتشابك بعضه البعض للعالم الحديث، وهو يتحاشى في رؤيته النقدية هذه أية مفاهيم للهوية تقوم على تصنيف أنطولوجي محدد سواء كان ذلك في السياق العرقي أو الإثني أو الهوية القومية.
المصادر:
1. Said, E. Orientalism, 3rd edn, Penguin, 1991
2. ---------, "Orientalism Reconsidered" in Literature, Politics and Theory, eds. Barker et al,. Methuen, 1989
3. ---------, Culture and Imperialism, Chatto and Windus, 1993
4. ---------, The World, the Text and the Critic, Harvard University Press, 1983
5. Foucault, M. "The Order of Discourse", in Untying the Text: A lost-structuralist reader, ed. R. Young, Routledge, 1987
6. Gandhi, L. Postcolonial Theory, Columbia University Press, 1998
7. Gilbert B.M. Postcolonial Theory, Verso, 1997
الحلقة النقاشية
حول مساهمات إدوارد سعيد
كلية الآداب- جامعة البحرين
الأحد 7 ديسمبر 2003م
ورقة عمل
رئيس تحرير مجلة (أوان)
Albanki002@hotmail.com

إعداد
محمد أحمد البنكي
تشكل مساهمات إدوارد سعيد المتعددة جهداً نقديا وفكريا متميزا في رصيد النظرية المتصلة بحقول الدراسات الإنسانية كما في إطار مقاربات وتحليل الأوضاع العالمية ومجمل ما تفرضه متحولاتها من مهام على المثقف بصورة عامة وعلى العربي والفلسطيني بصورة خاصة. وبالنسبة لمقتربات الرصد المعنية بالدرس النقدي، بحصر المعنى، فإن إضافة سعيد الاستثنائية يمكن أن تكون متمثلة في الوصل الذي أحدثه بين الإسهامات الماركسية والتفكيكية (ماركس، غرامشي، فوكو...)، وهي التي اشتدت رهاناتها في الفلسفة الفرنسية والقارية، من جهة، واتجاهات النقد الجديد والقراءة اللصيقة في الأكاديميا الأمريكية من الجهة الأخرى، وفي حيز أكثر اتصالاً بانشغالات الأوساط الفكرية العربية كان لسعيد دوره البارز كقنطرة عبور شكلت تجسيراً للفجوة بين الثقافة العربية والغربية واستطاع عبر معالجته لظاهرة الإستشراق وإدلاءاته التحليلية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية أن يرسي منظورات جديدة تواءم بين المعرفي والأخلاقي، مقاومةً على الدوام إكراهات السلطة على الحقيقة، وفاتحةً لثغرة نقدية جسورة في سياسات التمثيلات التي تفرضها القوى المهيمنة.
ولعله ليس من السهل إجمال مساهمات إدوارد سعيد واقتراح مناقشتها في حلقة علمية واحدة، إذ أن الفضاءات التي تتوغل في تضاريسها رحبة ومتداخلة على نحو يمتد من رفض النماذج المهيمنة للنظرية الأدبية والثقافية ولا يكاد ينتهي عند تخوم النضال من أجل الهوية والعدالة والتضامن الإنساني المشترك. ولهذا فإن أية استنتاجات ورؤى سنخرج بها من هذا اللقاء هي استنتاجات مبدئية بطبيعتها، ولقد أعدت ورقة العمل هذه على شكل تساؤلات تتضمن ثلاثة محاور: يختص الأول منها بـ "أشكال الاستعادة والاستخدامات، الماثلة والممكنة، لإسهامات إدوارد سعيد في الواقع الراهن. ويتطرق المحور الثاني للأمثولة التي تشكلها كتابات سعيد وممارساته فيما يتعلق بدور المثقف ومهامه وأنماط تدخله في علاقة المعرفة بالسلطة ضمن معطيات اللحظة الآنية. أما المحور الثالث فينصب على تجليات العلاقة، المشدودة والمتوترة، لإدوارد سعيد مع المؤسسة الأكاديمية وأثرها على مناخات ورؤى الحقل الأكاديمي في الجامعات العربية وأوساط الأكاديميين العرب.
ومن أجل الشروع العملي في تنظيم المداخلات ضمن إطار الحلقة تقترح الورقة مناقشة مجموعة التساؤلات الواردة في كل محور على حدة ، وأن يكون النقاش حول أسئلة ذاك المحور وليس كل سؤال على حدة، وللأخوات والأخوة المشاركين المساهمة في مناقشة المجموعات الثلاث، أو الاكتفاء بمناقشة مجموعة واحدة أو أكثر حسب اهتمامهم ورغبتهم.
المحور الأول:استخدامات إدوارد سعيد وأشكال استعادته:
1. من الملاحظ أن ما يشبه الاستيقاظ المفاجئ على ذكرى إدوارد سعيد قد أعترى الأوساط الثقافية العربية بمجرد أن سجل مؤشر الذبذبات خطا أفقيا مستقيما على الشاشة البيانية الكهربائية التي نفذت مباشرة إلى قلب سعيد. العديد من الاحتفاء التأبينية والمقالات الرثائية والأنشطة والفعاليات، هنا وهناك، لامست جوانب مختلفة، لوحت إلى رمزية شفيفة تربطها بسعيد وكتاباته، كان ذلك واضحاً من حجم الحزن والغضب، ولكن ماذا بعد ؟ كيف نحتفي بسعيد حقيقة؟ كيف نستعيد درسه؟ كيف نبني عليه؟ وننقده؟ ونتجاوزه؟ كيف نستدرجه إلى داخل المكان الأكثر نبضاً وحرارة وفاعلية في المجابهة التي نخوض غمارها؟
2. هل تحققت قراءة معمقة لإدوارد سعيد في دوائر الاهتمام العربي؟ هل نالت كتاباته الاهتمام اللازم ترجمةً واستثماراً ومعارضةً ومحاورة؟ إلا تعد حلقات هامة من مؤلفاته في عداد الجهود المغيبة عن القارئ العربي لأن حظوظ الترجمة لم تواتها بعد؟ وهل الترجمات التي تمت لمؤلفاته الأخرى أغلقت الباب دون الاجتهاد في إعادة ترجمتها من جديد لا سيما مع تبدي ملاحظات كثيرة حول تفاوت حظوظ هذه الترجمات المنجزة من الدقة والسلاسة؟
3. هل السر في غرام البعض، المبالغ فيه، بكتابات سعيد كامن في قابليتها لتحفيز قراءة مستريحة تعفي نفسها من أي مساءلة جدية للذات مادامت قد كشفت عن مآرب الآخر الكولنيالي الذي تلاعب بصورتها وشوّه تمثيلاتها اعتماداً على ظروف تفوق ضمنت له الهيمنة في لحظة ما؟ هل ثمة تؤدة كافية للحيلولة دون الوقوع في فخ الاستغراب بديلا للإستشراق؟
4. هل المطلوب اليوم الإقبال على استكمال دراسة وترجمة كتابات إدوارد سعيد ؟ ومغازيها؟ واستلهام مصاولاتها وتوظيف ذلك كله في المقارعة ضمن ساحات الجدل العالمي؟ أم إن حركة الوفاء الأعمق تكمن في التصدي لدراسة وترجمة تجربة وأفكار سعيد باستحضار سياقها الحافّ، دون فصلها عن النقودات القوية التي وجهت له من قبل أسماء واتجاهات رصينة مكرسة بالقدر نفسه معرفياً من أمثال إعجاز أحمد وهارولد بلوم وإرنست غيلنر وبول ريكور وبعض امتدادات الاتجاهات النسوية والتفكيكية والماركسية؟ هل ثمة من اللياقة ما يدفعنا إلى المراهنة على استعادة مزدوجة من هذا النوع؟
المحور الثاني: دور المثقف ومهامه في ضوء تجربة وكتابات سعيد:
1. عبر مصطلحات من مثل "الدنيوية" و "القراءة الطباقية"، ومن خلال التأكيد على الأثر السياسي للكتابة، والصلات المادية لوجود النص في العالم، ساهم سعيد بمرافعات حاذقة وشديدة الجاذبية عن المسؤلية الأخلاقية للمثقف، ودوره في النطق بالحقيقة والانتصار لقيم الحرية والعدالة، ونشدان تدخل أكثر جوهرية في وقائع العالم وانعكاسات أحداثه: هل يقدم منظور إدوارد سعيد متكاءات، نظرية وعملية، أكثر وعياً لتأصيل مثل هذا التدخل؟ ما هي بالتحديد؟ وهل ثمة حصانة، تحتفظ بالتوازن المطلوب بين مستندات النظري واملاءات العملي، في انخراط من هذا النوع؟ كيف تكون المواءمة دون الوقوع في تورط دوغمائي يجيّر الثقافي لصالح السياسي في خفته وزئبقيته وتعرجاته؟
2. إلى أي مدى نبدو متوافقين مع فكرة أدوارد سعيد عن المعرفة والاعتراف: ليس المهم، بالدرجة الأولى، أن نعرف الآخر، إنما الأهم هو الاعتراف بالآخر لا بوصفه عدواً أو نقيضاً، وإنما بوصفه ذاتا إنسانية قبل كل شيء؟
3. هل كان سعيد شديد القسوة والصرامة والقطيعة في مواقفه السياسة؟ وهل يمكن أن يعزى ذلك، في حال الموافقة عليه، إلى كونه محكوماً برؤية المثقف لا بخبرة السياسي؟
4. ماذا عن مواقفه التي يُختلف عليها، والتي تساق في هذا المقام للتدليل على افتقاد طروحاته للمرونة التي يتطلبها العمل السياسي: فمثلاً موقفه من ياسر عرفات الذي انحاز إليه وكتب خطاباته وجعله مع منظمة التحرير الفلسطينية رمزاً للحرية كما كان الحال مع المؤتمر الوطني الأفريقي ونيلسون مانديلا، ثم انقلب عليه، في مرحلة تالية وحوّله إلى إيقونة للكراهية والاستسلام، وكذا موقفه المعارض لقبول المعارضة العراقية السابقة بالتعاطي مع أمريكا من أجل إنهاء حكم صدام حسين ثم تشكيل المجلس الانتقالي للحكم؟ ماذا أيضا عن منادته بفكرة الدولة العلمانية الواحدة المشتركة كحل للقضية الفلسطينية بديلا من إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين؟
المحور الثالث: إدوارد سعيد. الأكاديميا. الأكاديميون العرب:
1. هل تنسحب دلالة الاحتفاء بإدوارد سعيد، في وسط أكاديمي كجامعة البحرين، على الاحتفاء بموقفه النقدي من الخطاب الأكاديمي وما يركن إليه، في صورته التقليدية، من معيارية الاختصاص المقيد والنخبوية المهنية ذات الطابع الاحترافي المعزول عن الحياة اليومية والسياق الاجتماعي والثقافي في الواقع المادي، أم إن هناك تبنٍ لموقف نقدي من هذه التقاليد؟
2. وإلى أي مدى يمكن الحديث عن تعديل في وجهة النظر المهيمنة على صياغة الجامعات العربية لمقررات دراسة الآداب الأجنبية بما يجعلها مذكّرة بالكولونيالية وتأثيراتها المستمرة، وبما يفسح لآداب مجتمعات التابع فرصة احتلال المساحة المناسبة على الخريطة الدراسية لا سيما ما كتب منها بلغة الآداب الغربية نفسها؟
3. بأية وجهة يمكن الحديث عن خطط واستراتيجيات تعليمية تتبناها الجامعات العربية تكون مندرجة في منظور للمقاومة وتعزيز الرهانات البديلة عوضاً عن الهيمنة التي تفرضها أشكال مختلفة من التسلط النظري، والمعارف الخبيرة، والفرضيات ذات النزوع الكولونيالي؟ هل الشقة بعيدة حقا بيننا وبين مثل هذه القناعات؟ وما هو السبيل لإتاحة مكتسبات النظر ما بعد الكولنيالي للفعل على مستوى القرار والإستراتيجية التعليمية؟
4. كيف يمكن أن نستقبل (في وسط أكاديمي مرة أخرى) فكرة إدوارد سعيد التي تطالب الأستاذ الجامعي بالتنزل من مكانة: "المحترف" إلى صفة: "الهاوي" حتى يحقق دنيويته الفاعلة، ويتحاشى عبادة الخبرة المهنية الاختصاصية الضيقة التي تودي بالمثقف إلى الانغلاق في خطاب متمركز حول ذاته دون انغماس عميق في العالم من حوله؟
**********
Fulfilling A Small Part of Edward Said's Dream:
Teaching American Studies in the Middle East
November 15, 2003
By: Colin S. Cavell, Ph.D.
cscpo@arts.uob.bh
University of Bahrain, American Studies Center
If you know the enemy and know yourself, you need not fear the result of a hundred battles. If you know yourself but not the enemy, for every victory gained you will also suffer a defeat. If you know neither the enemy nor yourself, you will succumb in every battle
(Sun Tzu Wu, The Art of War, 512 B.C.E.)
In a March 2003 article for the Egyptian weekly Al-Ahram, Edward Said related the story about Saudi prince Ibn Al-Walid donating ten million dollars to the American University in Cairo that same year in order to establish an American Studies Center, commenting that: "apart from a few courses and seminars on American literature and politics scattered throughout the universities of the Arab world, there has never been anything like an academic centre for the systematic and scientific analysis of America, its people, society, and history, at all. Not even in American institutions like the American Universities of Cairo and Beirut" (Said, March 20-26, 2003). Well, a little known secret has been developing here in the Kingdom of Bahrain since May of 1998 when then-University President Mohammed Al-Ghatam established the first American Studies Center in the Middle East here at the University of Bahrain. Beginning first with studies in American literature, the American Studies Center now offers over 19 courses in literature, history, politics, and culture, all critically analyzing the diverse peoples who comprise and contribute to an understanding of American society.
As Said explained in the Al-Ahram article above: "The point I am making is that to live in a world that is held in the grip of an extraordinarily unbound great power there is a vital need for knowing as much about its swirling dynamics as is humanly possible." Or as one pundit once put it: "It does no one any good to ignore the 800 pound gorilla sitting in the center of your compound."
Said, both an avid supporter of independence for Palestine as well as one of Yasser Arafat's fiercest critics over tactics how to achieve that independence, contrasted general Palestinian knowledge of America, which he described as a "caricatural knowledge of America (based mainly on hearsay and cursory readings in Time magazine)," with that of his longtime friend and political activist Eqbal Ahmed who, he said, "had carefully studied the Algerian FLN's relationship with France during the war of 1954-62 as well as the North Vietnamese while they were negotiating with Kissinger during the 1970s." Said stated that the "contrast between a scrupulous, detailed knowledge of the metropolitan society with which these insurgents had been in conflict with" and that of the present-day Palestinians "was stark." Said argued that Arafat's single-minded obsession was to meet with that "whitest of white men Bill Clinton : in his view that would be the equivalent perhaps of getting things done with Mubarak of Egypt or Hafez Al-Assad of Syria." And after Clinton confused and overwhelmed the Palestinians, Said continued, "so much the worse for Arafat and his men" whose "simplified view of America was monumentally unchanged, as it still is today." Like disappointed lovers, Said concluded, most people just throw up their hands saying: "'America is hopeless, and I don't ever want to go back there,'" albeit, he remarked, "one also notices that green, permanent residence cards are much in demand, as are university admissions for the children" (Said, March 20-26, 2003).
Studying the United States and American society had been one of Edward Said's lifelong pursuits, having received degrees from Princeton and Harvard before eventually becoming a virtual institution at Columbia University for the remainder of his life. Born a Palestinian in Jerusalem in 1935, his family fled to Cairo in 1948 having been dispossessed of their land as the state of Israel was welcomed into existence with swaddling clothes by the world's superpowers, owing partially to their collective guilt of not acting quickly enough to stem the Nazi holocaust and partially to (re-)write the history of that holocaust as to who were its main victims: Jews or communists. Said himself made his way to the US in the 1950s, first as a student, then as a teacher, eventually being awarded a professorship at Columbia University where he had taught since the 1960s.
One of Edward Said's most important works, Orientalism, published in 1978, coined the term for what he diagnosed as a symptomatic shorthand for the tendency of European scholars to exoticize the East by utilizing racist and demeaning representations, portraying the East as subordinate, irrational, sexually obsessed, childlike-all aspersions Western men attempted to denigrate women with. In their obsession of defining the East or the Orient, these scholars were attempting to define themselves, perhaps to make sense of Western imperial actions since the Crusades of the 11th, 12th, and 13th centuries, and definitely to justify the "necessity of" 19th and 20th century imperialist control over the Middle East and Asia. Providing a lens through which Europeans and Americans have "seen" the Orient as "the stuff of children's books and popular movies: a world of harems and magic lamps, mystery and decadence, irrationality and backwardness," says scholar Mary McAlister, "Said's Orientalism provided a detailed analysis of the history of such images, as well as a language for understanding how the cognitive mapping of spaces (East versus West) and the stereotyping of peoples are both intimately connected with the processes of economics, politics, and state power" (2001, pp. 8-9).
In calling for the systematic study of American society, Edward Said, more than most, was well aware of the negative consequences of a myopic perspective, especially one fraught with ignorance and stereotypes. Recognizing US politics as multi-dimensional and its culture as multi-faceted, Said saw fluidity where others saw stagnation, diversity where others saw conformity, multi-dimensionality where others saw uniformity, tension and conflict where others saw only hierarchicalization and unanimity.
Yes, Edward Said recognized the US government as an imperialist superpower, but he also witnessed as hundreds of thousands protested the 1991 Gulf War as well as the recent war against Iraq. Nor did he forget the part played by millions of antiwar activists in getting the US out of Vietnam by the mid-1970s. US politics, he pointed out, is made up of diverse strands, with the so-called Christian right in the ascendancy at present backing the administration of George W. Bush. These fundamentalists, Said noted, are in a "peculiar alliance" with Israel's Zionists-peculiar because the Christian fundamentalists "support Zionism as a way of bringing all the Jews to the Holy Land to prepare the way for the Messiah's Second Coming; at which point Jews will either have to convert to Christianity or be annihilated" (Said, March 20-26, 2003).
By why would so many presumably well-meaning Christians opt for such an absurd perspective? Part of the answer is the contradictions and stagnation the US capitalist economy has been undergoing now for the past few decades, even though the defeat of so-called "imperial" communism (i.e. the Soviet Union) was supposed to herald the "end of history," in former US State Department analyst Francis Fukuyama's words, with liberal, capitalist democracies riding into the sunset in triumph. Quoting economist Julie Schor, Said remarked that "Americans now work far more hours than they did three decades ago, and are making relatively less money for their efforts." The alliance of US corporations with the federal government "still hasn't been able to provide most Americans with decent universal health coverage and a sound education" (Said, March 20-26, 2003). Indeed, as the only industrial democracy with no universal health care, this issue alone constitutes the single biggest concern in surveys of US citizens. With the most technologically advanced health care in the world, it is, unfortunately, priced out of the reach of most Americans, with over 40 million (officially) with no health care insurance at all. Indeed, with even a two-day hospital stay sometimes costing over $6000, it is not surprising for many to turn to God, and all the manipulations which organized religion in America can bring, for the government is surely not answering their prayers (unless, of course, if you join the military). And as the asymmetry of wealth distribution in the US grows wider with over 70% of all wealth now owned by only 10 percent of the population and, hence, with over 90% of the country owning a mere 29.1 percent (Wolff, April 2000), the hallelujahs will only get louder and the absurdity of US government policies even more profound.
More precisely, repeated calls for reform and systemic change are drowned out by a continuing series of "crises" (e.g. currently the "war on terror") which demand US countermeasures and the bulk of federal funding. And the age-old American practice of systemic racism which superexploited Black Americans while grossly underfunding African American and other US minority communities in the past is no longer politically tenable, at least not overtly. Conveniently-for the ruling US strata-the "peace dividend" from ending the Cold War has now been squandered-for the vast majority of citizens-and redirected towards more profitable endeavors. Indeed, fiscal appropriations for the US military budget have gone up from $300 billion in 1998 to nearly $400 billion in 2004. As Cecil Rhodes, the British colonist and founder of Rhodesia (modern-day Zimbabwe) stated in 1895: "The Empire, as I have always said, is a bread and butter question. If you want to avoid civil war, you must become imperialists" (quoted in Lenin, 1916, Chapter VI). In effect, continuous war abroad is a fundamental necessity if the current US corporate structure is to remain in the driver's seat, even if it means piping lemmings into the sea.
And then there is the issue of oil, one of those nonrenewable resources like coal and natural gas, except that modern civilization runs on oil, and current estimates place world peak oil production between the years 2003 and 2010; from there on in, oil will become an even more valuable commodity than it already is ("New Energy Report #90," January 7, 2003). But, if you want to believe the Bush Administration, the US went to war in Iraq because: 1) Saddam Hussein's Iraq was in cahoots with Osama Bin Laden's Al-Qaeda and both were responsible for the terrorist attacks in the US on September 11, 2001; or 2) Saddam's Iraq posed a threat to the US with its (yet-to-be-found) stockpile of nuclear, chemical, and biological weapons; or 3) Saddam's Iraq posed a regional threat to its neighbors through its continuing support for terrorism; or 4) Saddam's regime was a brutal dictatorship and humanitarian reasons dictated US intervention; or, more recently, 5) US dependence on anti-democratic regimes in the Middle East for the past 60 years has not made the US safe "because in the long run, stability cannot be purchased at the expense of liberty" (Bush, November 6, 2003). Oil? Of course not, if you believe the Bush Administration's apologists. But, then again, there are those nagging American critics like current presidential candidate Representative Dennis Kucinich (D-OH) who wrote before the current deployment of over 130,000 troops to Iraq:
Ask yourself:
What commodity accounts for 83 percent of total exports from the Persian Gulf? What is the U.S. protecting with our permanent deployment of about 25,000 military personnel, 6 fighter squadrons, 6 bomber squadrons, 13 air control and reconnaissance squadrons, one aircraft carrier battle group, and one amphibious ready group based at 11 military installations in the countries of the Persian Gulf? (Note, the disproportionate troop deployments in the Middle East aren't there to protect the people, who constitute only 2 percent of the world population.)
What was Iraq's number one export when the U.S. made an alliance with Saddam Hussein, sold him biological and chemical weapons agents, and then did not object when he gassed his own people?
For what major Iraqi resource has Saddam Hussein denied contracts with the largest U.S. and U.K. multinational companies? (Note, those companies are the #2 (ExxonMobil), #4 (BP-Amoco), #8 (Shell) and #14 (ChevronTexaco) largest companies in the world, and the Bush Administration has been known to listen when large energy corporations speak.)
For what Iraqi resource did French and Russian multinational companies receive lucrative contracts from Saddam Hussein? What valuable commodity does one reprehensible, megalomaniacal tyrant (Saddam Hussein) control that another reprehensible, megalomaniacal tyrant (Kim Chong-il) does not?
How do the White House and State Department plan to pay for a post-Saddam occupation and reconstruction?
The answer to all of these questions is oil, of course. Oil obviously drives U.S. policy in the Middle East. So who can doubt that this war in Iraq concerns oil (Kucinich, March 11, 2003)?
What good are such pronouncements such as that of Representative Kucinich's above if they do not find their way into the Arab press or are not studied by students in the Arab world? What good does it do for future generations of Arab leaders to think that Israel dictates what goes on in America because of the seeming invincibility of the American Israel Public Affairs Committee (AIPAC)? What good is served by Arab students not understanding the tripartite division of governmental power in the US federal government (i.e. legislative, executive, and judicial) or the federal nature (i.e. shared power between the national government and the 50 US states) of American politics or the numerous checks and balances between the separate branches? Can the Arab world continue to depend upon superb accomplished public intellectuals alone, like Dr. Edward Said or Dr. Eqbal Ahmed, or even Dr. Hanan Ashrawi or Dr. Hussein Ibish, to champion the Palestinian cause or speak for Arab interests before the US media? What about a much larger contingent of Arab intellectuals writing, educating, and telling-in English-the US public its side of the coin, lobbying US officials, and countering anti-Arab propaganda? Will Arabs continue to stay largely disengaged from US politics-as is currently the case-while Israel involves itself in every facet of national, state, and local politics in the US, funding favorable candidates with seeming bottomless coffers and assiduously countering anti-Israeli propaganda? Or is the concern that Arab citizen involvement in the give and take of US democratic politics may act to destabilize unitary autocratic governments at home? And, if Arabs continue to stay aloof from involving themselves more deeply into the fray of US domestic politics, should we be surprised that US policies continue to be one-sided and asymmetrical and, indeed, absurd in their anti-humaneness towards Palestinians in particular and Arabs in general? These and other questions Edward Said would likely want addressed by the establishment of American Studies Centers throughout the Middle East and North Africa. Hopefully, some progress on these fronts is being made here at the University of Bahrain's American Studies Center.
Postscript
Edward Said, prominent Palestinian-American public intellectual, influential scholar, political activist, literary critic, accomplished pianist, devoted and beloved teacher, member of the faculty since 1963 and professor of English and Comparative Literature at Columbia University in New York City since 1992 died of leukemia on September 25th, 2003. Outpourings of commemoration, lamentation, and sympathy rose forth from a chorus of devotees, colleagues, and admirers throughout the world. And, it is certain, that his many works-including Beginnings (1975); Orientalism (1978); The Question of Palestine (1980); Covering Islam (1981); The World, the Text and the Critic (1983); After the Last Sky (1986); Blaming the Victims (1987); Culture and Imperialism (1992), The Politics of Dispossession (1995); Peace and Its Discontents (1996), Out of Place: A Memoir (1999), The End of the Peace Process: Oslo and After (2000); Reflections on Exile (2000); The Edward Said Reader (2000); and Power, Politics, and Culture (2001), most of which are already translated into more than 35 languages-will invite and intrigue students and scholars long after his physical death for many years to come.
And as regards honors accorded to Dr. Edward Said, the Columbia University press release of September 25-26 indicated:
Professor Said received honorary doctorates from Bir Zeit, Chicago, Michigan, Jawaharlal Nehru, Jami'a Malleyeh, Toronto, Guelph, Edinburgh, Haverford, Warwick, Exeter, National University of Ireland and American University in Cairo. He twice received Columbia's Trilling Award and the Wellek Prize of the American Comparative Literature Association, and was a member of the American Academy of Arts and Sciences, the American Philosophical Society, the Royal Society of Literature, and a member of King's College, Cambridge, and an Honorary Fellow of the Middle East Studies Association. In 1999 he was President of The Modern Languages Association (Columbia News, September 25-26, 2003).
So long as the American Studies Center here in Bahrain, and whatever others may follow throughout the Middle East, provide a critical appraisal of US society-and not mere apologetics or celebratory triumphalism for US actions, Edward Said's legacy will be honored. In so doing, a more even handed approach and engagement between the US and the Arab world may result.
Bibliography
Bush, George. November 6, 2003. "President Bush Discusses Freedom in Iraq and Middle East. Remarks by the President at the 20th Anniversary of the National Endowment for Democracy." Washington, DC: Office of the Press Secretary
http://www.whitehouse.gov/news/releases/2003/11/20031106-2.html .
"Columbia Community Mourns Passing of Edward Said, Beloved and Esteemed University Professor." September 25-26, 2003. Columbia News: the Public Affairs and Record Home Page
http://www.columbia.edu/cu/news/03/09/edwardSaid.html. New York, NY: Columbia University Office of Public Affairs.
Kucinich, Dennis. March 11, 2003. "Obviously Oil." AlterNet.org. San Francisco, CA: Independent Media Institute.
http://www.alternet.org/print.html?StoryID=15359)
Lenin, V.I. 1916. "Imperialism: The Highest Stage of Capitalism." Collected Works, Volume 22. Moscow, USSR: Progress Publishers.
McAlister, Melani. 2001. Epic Encounters: Culture, Media, and U.S. Interests in the Middle East, 1945-2000. Berkeley, CA: University of California Press.
"New Energy Report #90." January 7, 2003. Tahoe City, CA: Alternative Energy Institute, Inc.
http://www.altenergy.org/news/newsletter90/copy90/copy90.html).
Said, Edward W. 1978. Orientalism. New York: Pantheon Books.
_____________. March 20-26, 2003. "The Other America." Issue No. 630 http://weekly.ahram.org.eg/2003/630/focus.htm. Al-Ahram Weekly.
Cairo, Egypt: Al-Ahram Organization.
Sun Tzu Wu. 512 B.C.E. The Art of War. Marxists Internet Archive: Reference Writers: Sun Tzu Reference Archive
http://www.marxists.org/reference/archive/sun-tzu/works/art-of-war/.
Wolff, Edward N. 2000. "Recent Trends in Wealth Ownership, 1983-1998." Working Paper No. 300. Annandale-on-Hudson, NY: The Jerome Levy Economics Institute of Bard College.
***********
فعاليات ثقافية وفنية مصاحبة
يتزامن مع الندوة الفكرية فعاليات ثقافية أخرى أهمها:
1. معرض مؤلفات إدوارد سعيد الذي يشارك فيه كل من مكتبة العائلة (المؤلفات باللغة الإنجليزية)، ومكتبة الأيام (المؤلفات باللغة العربية).
2. المعرض التشكيلي الذي يشارك فيه كل من: عباس يوسف، راشد العريفي، عبد الجبار الغضبان، ولبنى الأمين، ووحيدة مال الله، خليل الهاشمي، جعفر العربي، ومجموعة من نادي الفن والتصوير بالجامعة.
3. عرض مجموعة من الأفلام التي تشتمل على محاضرات وحوارات لإدوارد سعيد، وفيلم تسجيلي عن سيرته.
4. حلقة النقاشية عن (إسهامات إدوارد سعيد)، وتدور حول المحاور الثلاثة التالية:
أ- المحور الأول:استخدامات إدوارد سعيد وأشكال استعادته:
ب- المحور الثاني: دور المثقف ومهامه في ضوء تجربة وكتابات سعيد:
ج- المحور الثالث: إدوارد سعيد. الأكاديميا والأكاديميون العرب: